(1)
لم أرى في حياتي شخصاً يتضايق من الإطراء والثناء عليه خاصة من مرؤسيه أو ممن عندهم لديه حاجة مثلما كان الراحل الأستاذ محمد محمد أحمد كرار رئيس تحرير صحيفة الشارع السياسي ..كان الرجل يمور صدره غضباً ويضيق ذرعاً بمادحيه، ولا يستقبح شيئا أكثر من الإطراء والتقريظ ولايحتقر شخصاً أكثر مما يحتقر مادحيه في حضوره كأنما يتمثل الحديث الشريف :( إذا رأيتم المادحين فاحثوا على وجههم التراب)، أو كأنما كان يقتدي بالمثل الشعبي :(الشكروه في وجهو نبزوه)..
محمد أحمد كرار يمتلك حساسية شديدة ضد الإطراء والتملق، فيمكنه ان يتحمل منك النقد مهما كان قاسياً، ولكنه يضيق ذرعاً إذا أثنيت عليه وهو حاضر … أثناء اجتماع التحرير الصباحي كان مدير التحرير
وهو رجل متقدم في السن (65) عاما ، كان دائم الثناء والإطراء على مقال رئيس التحرير الاستاذ كرار، وكنتُ والزملاء عبد الحميد عوض وهاشم عبد الفتاح، وعماد عبد الهادي باعتبارنا الأقدم والأعرف بطبيعة “كرار” كنا نخشى من غضبة كرار على مدير التحرير الجديد ، ونحن نلاحظ الدم يغلي في عروق الراحل كرار حينما يسمع كلمات الثناء تصدر من مدير التحرير:( والله يا استاذ ، السودان دا مش واسع، لو قالو في صحفي واحد بس متمكن في الكتابة زيك يبقو كضابين ، مقالك دا يا استاذ فيهو فنيات عالية جداً ولغة رفيعة للغاية.. الخ.)…
..بعد نهاية الإجتماع، أشار إليّ كرار أن ابقَ ،كنتُ وقتها رئيس قسم الأخبار والأقرب للأستاذ كرار ، قال لي:( يا التاي كلّم زولكم دا قول ليهو تاني والله تشكرني وتطري علي بالصورة دي إلا أرفدك، ياخ دا راجل كبير في سن أبهاتنا ما عايز احرجو..)
كنتُ محتاراً كيف سأوصل هذه الرسالة الواضحة إلى هذا المدير المادح ، لكن ما أن عدتُ لمكتبي فاجأني الزميل عبد الحميد عوض بنفس الرسالة :(يا احمد عمك دا نبهو قول ليهو الزول دا – يقصد كرار – ما بحب الإطراء والتملق، ممكن يرفدك عديل بسبب ذلك).. تعجبت لنصيحة عبد الحميد التي تطابقت مع نصيحة كرار في زمن واحد .. بالفعل نصحتُ عمي مدير التحرير واوصلتُ له الرسالة بصورة مقبولة، ولكنه فهمني خطأ وظنّ أني أريد أن أقطع أمامه طريقاً يمكن أن يوصله إلى مايريد بأقصر السبل…ولم يعر نصحى إهتماماً، وتمادى في (كسير التلج للريّس)..
حتى وقعت الواقعة، فاستشاط الراحل كرار ذات يوم غضباً، وقال له:( شوف يا استاذ أنا ما بحب الإطراء..والله تاني تشكّرني قدامي وتطري علي بهذه الطريقة إلا أرفدك وأديك حقوقك، ياخ ما ممكن أنا طوالي صاح والافضل والاحسن..
(2)
في الضفة الأخرى المقابلة لحكاية كرار ومدير التحرير.. شاب في العقد الخامس من العمر يرتدي على الدوام جلباب ابيض ناصع وعمامة “مقنطرة” إلى الأعلى ومائلة إلى الأمام لتغطي الحاجبين و(شال مطرز) و”صديري” أسود يطلقون عليه لقب شيخ العرب وأحياناً “العمدة”…
ليس لهذا العمدة عمل، فهو عاطل مثله مثل كثير من العاطلين الذين يتظاهرون بممارسة السياسة للتكسب المادي وتملق المسؤولين والتزلف إليهم و(كسير التلج)..
يبدأ برنامجه بالحضور مبكراً للمدينة الصغيرة التي تضم مبنى الحكومة الرئيس يدخل العمدة كعادته على المسؤول الأول في المرفق الحكومي وهو يردد :(علي الطلاق بالتلاتة إنت أرجل راجل في البلد دي، وعلي الطلاق مافي ود مقنّعة هنا بلحقك، وعلي الطلاق ود أصول ومن يوم جيتنا في المنصب دا مالقينا منك إلا الخير…شر تب ما شفناهو منك ياقدم الخير..)..هكذا يطنب العمدة في الإطراء الفج والثناء “العبيط”.. على ذلك المسؤول (الأهبل)..
(3)
لم تمض ثوان حتى يُخرج العمدة ورقة مكتوبة بخط اليد معنونة للمسؤول يطلب فيها مساعدة لعلاج مريضة دون ذكر اسمها، ودون إحضار تقارير طبية تثبت ذلك وتحدد المرض والحاجة للعلاج واسم المريضة وهويتها..
المسؤول وبعد سماع المدح والثناء، يكتب ودون تردد على تلك الوريقة مبلغ 500الف جنيه..
ثم يوسوس العمدة للمسؤول في أذنه :( تِمْ أجرك مرة واحدة يا كريم الأصول يا ابن الكرام وصدق لينا وقود عشان نشحد لينا عربية نسعف المريضة دي..).. هاك 15جالون بنزين تصرف كل المبالغ فوراً…
العمدة المستهبل يضع المبلغ على جيبه، ولا احد يسأله عن المريضة، ولا يدري احد إن كانت هناك مريضة أصلاً أم لا..
وبعد أيام يُشاهد العمدة في عاصمة الولاية حيث الوالي وذلك في مهمة (إنسانية) أخرى ، أيتام لايجدون مايقيم صلبهم، أو أرامل يهمن على وجوههن، أو أسرة متعففة، وأشياء من ذاك.. ثم يردد كلاما حفظه مدراء مكاتب المسؤولين من قبيل (وأنا والله جيتك انت عديييل يا ولدة الفراس، وانا عارف المهمة دي بلاك ما بتقضى تب وعلي الطلاق تقضاها، ونحنا كقيادات الناس ما بسمعو كلامنا تاني لو ما وقفنا في حارتهم..)..
أمسك جيب الطلب تصدق بمبلغ كذا ..يصرف فوراً تقديرا للحالة.. (ربما يكون صادقا في خدمة اهله، ولكن الطريقة الإجرائية تحمل خطأ كبيرا وبذرة فساد وفشلا وبؤسا ما بعده بؤس، ولو كانت الدول تدار بهذه الطريقة البائسة لما كانت هناك دول على وجه الارض…
(3)
في كل مرة تداعب خيالي ذكرى واقعة الراحل كرار مع مدير التحرير المستهبل ذاك، كلما يروي الراوي حكايات من سوق السياسة والنجاسة وحكايات المستهبلين مع المسؤولين الضعفاء الفاشلين فأدرك كم كان البون شاساً بين القدوة التي قدمها لنا استاذنا الراحل محمد محمد احمد كرار وما اسمع من قصص واقعية تصلي القلب حُرقةً وتقف في الحلق غصةً.. وحينها أجد تفسيراً منطقيا لما نحن فيه بؤس وخراب ودمار وعار وشنار وحروب ذلك بأن خطام راحلة الوطن كان يقوده قطاع طرق اومسؤولون ضعفاء فاشلون سُذج يستطيع اي مستهبل يمارس السياسة للتكسب ان يخدعهم ، وبامكان اي متملق حقير ان يستغلهم ويضحك عليهم، وعندما أدرك ذلك يقينا أتألم وتنطوي في نفسي حسرة…أتحسر على أن مثل طراز الراحل محمد احمد كرار ينعدم بشدة وسط المسؤولين، بل أجد مسؤولين يبحثون عن الثناء بلاعطاء وأتحسر أكثر أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فهل تحسبنهم بمفازة من العذاب …
أتحسر وأتأسف على أن المسؤولين الآن يبحثون عن الأضواء والمدح والثناء، ظناً منهم أن ذلك شهادة كمال لتبقي الواحد منهم بالمنصب ، ومصل واقي ضد الخصوم وشهادة على أنه القوي الأمين لتقربه زلفى لمن هو أعلى منه منصباً…
في تقديري أي مسؤول يطربه المدح والثناء، ويستهويه التملق والتزلف وينطلي عليه ذلك هو مسؤول فاشل وضعيف وأي مسؤول يبحث عن الإطراء ويسعى إليه يجب ان يتم اعفاؤه في الحال…اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع التي تحبُ أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين..