في العام 2006 كنت محررة مبتدئة وكان مصوراً محترفاً، كنت أتلمس خطاي الصحفية وكان متوهطاً في عالم الصحافة، كنت أحبو على بلاط صاحبة الجلالة وكان يجري ويقفز و يركض في سوح الإعلام، كنت صغيرةَ عمرٍ و تجربة وكان ناضجَ فكرٍ و خبرة ، كنت تلميذة متحفظة و كان أستاذاً متمرداً ، كنت أسعد بالحروف
تحقيق : سهير عبدالرحيم
عدسة : جاهوري
وكان هو يسعد بالصورة
المكان صالة التحرير في صحيفة الرأي العام وما أدراك ما صالة التحرير ، وما أدراك ما (الرأي العام) ، تلك الصحيفة التي تظل علامة فارقة في مسيرة تقارب قرناً من عمر الزمان ، خرَّجت خلالها اجيالاً من الصحفيين والمصورين والفنيين وقادة الرأي العام و أساطين البلاغة ودهاقين الحرف و أسياد الصورة والقلم ، فتربعوا نجوماً في الصحف والإذاعات المحلية والفضائيات الإقليمية.
الرأي العام التي انفردت بأذكى المصورين وأميزهم؛ جاهوري و حق الله وإبراهيم ، و انفردنا نحن الصحفيين بحرصنا على عمل مميز يجعلهم في صحبتنا ، كنت أدرك أني أتعلم من زملائي و زميلاتي ورؤساء الأقسام و مدراء التحرير أسرار و مهارات العمل الصحفي و لكني لم أتوقع أن أتعلم الكثير من المصورين.
جاهوري فيلسوف الصورة و أستاذ العدسة المتمكن الساخر المميز ..يكفي أن يطلق عبارة أثناء تغطيةٍ ما لينير فكرك في اتجاه آخر غير مرئي ….فسبحان الذي جعل له عدستين؛ عدسة الكاميرا و عدسة يرى بها ما لا نراه .
ذهب الجمع الحاشد لاستقبال الزعيم الجنوبي جون قرنق بمطار الخرطوم ، ازدحمت فلاشات المصورين تتسابق على بوابة الطائرة وبروتكولات الاستقبال وهتافات الحشود ، خرجت جميع الصحف في يومها التالي بصورة جون قرنق وخرج جاهوري المختلف بصورة طفل جنوبي جاء لاستقبال قرنق وهو يحمل كرتونة كتب عليها السودان الجديد
طال وقوف الطفل الجنوبي في انتظار جون قرنق وحين بلغت الشمس مبلغاً منه واستنفد طاقة الوقوف جلس عليها. لا أنسى تعليق جاهوري يومها بأنه (فعلاً هذا هو السودان الجديد كرتونة تحت الأقدام).
كان بعيد الرؤية والتحليل، عزيز النفس شامخ الروح ..عصياً على الأوامر والبيروقراطية … يلتقط الصورة بحب وليس واجباً . يحمل في كاميرته إبداعاً و بصيرة و في عدسته عينَ صحفيٍّ و ناقدٍ و كوميدي…
أذكر سخريته من كاتب كبير حين وجده يعمل على تقرير و هو يصدر أصواتاً عالية من حركة أصابعه على لوحة المفاتيح، قال له جاهوري “هذه أزرار حساسة تعمل باللمس وليس المعافرة”.
في كل تغطية خبرية أو تحقيق استقصائي يكون فيه بصحبتي أجد نفسي متشوقة لتعليقه على حديث وزير أو مسؤول أو مواطن …فهو يختصر المقابلة في جملة واحدة.
*خارج السور:*
يوم أمس حمل الناعي رحيل جاهوري، اللهم ارحمه واغفر له واجعل قبره روضة من رياض الجنة واحشره مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا بقدر ما أعطى و أمتع و أبدع و وثق للسودان سلماً وحرباً