حين أستمع إلى قول الله تعالى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( 5 ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( 6 ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( 7 ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( 8 ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَمْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسرارًا ( 9 ) ) – حين أستمع إلى تلك الآيات من الذكر الحكيم أدرك حينها أن أبي قد صلى الصبح، وأنه يرتل في سورة نوح .
ورغم تعلقي وملازمتي الشديدة لأبي لم أدرِ – أبداً – ما سر التصاقه العميق بتلك السورة، لكنني كنت أعلم أنها السورة التي يقرؤها عقب صلاة الفجر، ثم لا ألبث أن أسمعه يردد (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) –
حينها – أعلم أنه أنهى صلاة الفجر، وأوراده الصباحية ثم أشعر بوقع خطواته، وهو يتوكأ على عصاه ليعيد إيقاظي للمرة الثالثة أن يا سهير قومي لصلاة الفجر والبنات دييل ما عندهم مدرسة ولا شنو ؟ .
كنت وفي كل المرات التي أستمع إلى وقع أقدامه وصوت تلاوته أعلم جيدا أن الفجر لن يغيب، وأن ترحيل المدارس ما ح يفوت البنات .
عم عبد الرحيم الرجل المشبع بحب الوطن، كان يجلس على كرسيه أمام منزله هاشاً باشاً، ودوداً مبتسماً حتى تبين نواجذه يحادث سيد الدكان، وبوكس الخضار وأطفال الروضة، وبتاع الركشة، وترحيلات المدارس وسيد اللبن .. يصبِّح عليه الجميع قائلين إزيك يا ود الحسين .. كيف صحتك ؟ .. فيجيب بعبارة واحدة يحفظها عنه كل الجيران والأهل فيقول (الحمد لله زي الشعب السوداني ) .
كنت حين أمر به وأنا أهم بمغادرة البيت – أسأله عاوز شنو يا أبوي ؟ فيقول جيبي لي معاك الجرائد – الأيام والرأي العام، والجريدة البتكتبي فيها، وسلامتك .. وكان أول ما يبدأ بمطالعة أخبار الصحف يكتئب، ويتحسر لحال الوطن، ويردد (يا خسارة ) ، كيف لا وهو من صناع الاستقلال ..
كنت حين أقضي له حاجة أنتظر لحظات؛ لأسمع دعواته لي، وهو يقول ( جزاك الله خيرا، وبارك الله فيك، ويسر أمرك، وفتح الله عليك، وأبعد عنك أولاد الحرام) … فتتملكتني سعادة غامرة بتلك الدعوات وأمضي بقية يومي غير آبهة بكل ما يعترض طريقي من مصاعب .. الآن رحل عم عبد الرحيم الرجل المختلف في هذا العالم البائس .. رحل صاحب التعويذة الصباحية وقرآن الفجر، وصلاة الجماعة، رحل دفء الشتاء ومنسأة الضرير، ولوح الخلاوى، رحل نبض الحياة والقلب الكبير، وصاحب الديوان، رحل سيد أحلام الليلة وباكر، وهسه .
هل أخبرتك يا أبي قبلاً أن الفجر يتوضأ من مشارب طهرك؟، وأن الليل يعقد آهاته على أرصفة انتظارك ؟ وأن الشمس تغازل شهقة البكر في ابتسامتك ؟ .. ألا تعلم يا أبي أن الرجولة خلقت لتكون أنت؟، وأن المروءة، والتسامح، والقلب الأبيض هو من نهجك أنت؟ وأن المواقف المختلفة، وصناعة النضال هو محرابك أنت وما دونك يؤدون شعائر من غير وضوء؟، ألا تعلم يا أبي أن حديثك هو بطاقات ائتمان لعبوري من ليل الألم؟، وأن ضحكتك هي احتمالات الفرح في زمن الانكسار؟ .
أوَتعلم يا أبي أنك كل الرجال في رجل واحد، وأنك كل الأزهار في بستان واحد، وأنك كل العطور في قنينة واحدة، وأنك كل الاحتمالات في مسألة واحدة .
أوَتعلم أن رقم هاتفك هو الذي أحفظ، وأن رسائلك هي التي أنتظر، وأن نغمة انتظارك هي مفتاح كتاباتي .
الآن تبعثرت أوراقي، ووحدك من يملك شفرة أفكاري؛ ليعيد ترتيبها، وإصلاح عطبها، وكما عهدتك يا أبي رجلاً مختلفاً، مناضلاً جسوراً لم توهن جسدك المعتقلات، ولم تُضعف حماسك الأنظمة الشمولية، ولم تكسر شوكتك قسوة جلاديك في بيوت الأشباح ..
كنت قوياً داخل المعتقلات، وخارجها، لم تبدل شخصيتك، ولم تغير خطواتك، ولم ترهن مواقفك، كنت وستظل عبد الرحيم ود الحسين الرجل الذي يحب الخير لوطنه وشعبه .
*خارج السور*
سألتك يا الله باسمك الأعظم أن تجعل قبر أبي روضة من رياض الجنة