الكتاب

صبري محمد علي: (بعيداً عن السياسة) تاريخ تكسِّير الثلج ؟

خاص - صوت السودان

أعتقد جازماً لو أن أحداً من أجدادنا قد بُعث من مرقده وأُجلِس ضمن مجالس جيلنا الحالي يستمع لأحاديثهم لما فهم من مفردات المُخاطبة ومعاني الكلمات والعبارات المتداولة شيئاً !

فالمُفردات التي …..
لا تحمل معناها في قاموسنا
ما أكثرها
و ربما يطلقها الظرفاء أو زملاء المهنة الواحدة
ولأولادنا الميكانيكية والسواقين والمساعدية القدح المُعلى في هذه الإبتكارات اللفظية

أذكر ذات مرة …..
كنتُ داخل ورشة بالخرطوم أنتظر إصلاح عطل ما في سيارتي أجلسوني على كرسي من (النوع أبوكديس) لا تدري أهو كرسيٌ أم (نُص مكنة) تحت ظل شجرة هزيلة تتقي هي نفسها أشعة الشمس
وبينما أنا جالس أتصفح جريدة أحملها أتقي بها حر الشمس أحياناً و أحياناً أخرى أستخدمها (كهبابة)

إذ أقبل زميل لهم ……
ولعله كان في إجازة زواج طويلة
و(تعال شوف) ….
الإستقبال والعبارات التي جعلتني أتوقف عن القراءة لأستمتع بالمتابعة
(أووووو) وينك ياعمك
عملت صنفرة يا أبن ال …..
بقيت سِنّة ناعمة يا فردة
نضوقو ونطلع سوقو
وهم يحتضنونه مُرحبين بمقدمة الميمون !

موقف آخر …..
ذات مرة في أحد عطلاتي وفي صباح يوم عيد ما كُنت أنفح بعض أطفال الأسرة (بالعيدية)
وكانت هناك طفلة لأخي تمنّعت أن تتقدم لإستلام (الغمتة)
فناداها إبن عمها وكانا طفلين في سن ما قبل المدرسة قائلاً لها
أمشي أمشي
دايرين يرقعُوك !

فعلمت يومها أن ….
العطية قد أصبحت تُسمى ب (الرَقَعة) بضم الراء أو بفتحها ففي الأمر سَعَةً والحمد لله وهي (العَصْرة) على أيامنا

وغير ذلك من موروثاتنا اللفظية التي ما زلنا نُرددها و تُجافي المعنى الحقيقي لها ولن يفهمُها إلا السودانيون أنفسهم …

ياخ (ما تتكلم ساكت)
موروث مُدهِش أذهل العرب !
ونعني به ….
لا تتكلم كلاماً لا معنىً له

أعود لموضوع (كِسّير التلج) أو تكسِّير الثلج بكسر الكاف وتشديد السين و يُقصد بها الإطراء على شخص ما
أو مدحه لغرض المنفعة !
حتى أصبحت نوعاً من الدعابة بين القُرناء كقول أحدهم لصديقة

خالي البارح …
رقعني ليك بي (باكو أبو خمسمية)
فيرد عليه الآخر في نوعٍ من الحسادة البريئة …!

(مااا) تلقاك كسّرت ليهو
واللّه ما كسّرت !
كسّرت ….
ما كسّرت ….
فيستمر الهجوم و الهجوم المُضاد
لبرهه من الزمن ثم ينتهي

المُهم يعني بذلك أنك (شكّرتو) أو أثنيت عليه لينفحك بعطاياه

ولكن في العموم لا تُطلق عبارة (كسّرت التلج) على كل أنواع المديح

إلا إذا ….
إرتجَى المُكسٌّر من المُكَسّر له منفعة مادية أو عينية وأضاف آخرون أن طلب المُصاهرة يمكن أن يدخل ضمنها على رأي بعض جُمهور فُقهاء المُكسِراتية

وأعتقد أن …..
(كِسّير التلج) ليس بِدعاً على أهل السودان فحسب فقد ثبت ذلك في كُتب الأدب وأشعار العرب وما أكثر شعر المديح لديهم …
صحيح أنهم كانوا يطلقون عليه مديحاً ولكنه بلغتنا السودانية هو (الكٌسّير) بعينه

(عمنا) الفرزدق ….
كسّر (تلجة) كبيرة قيل أنها كانت في حق علي بن الحسين بن علي زين العابدين في قوله

ما قال لاٍ إلا في تشهُده
لولا التشهُد كانت لاءهُ نعمُ

أما الشاعر جرير فقد إمتدح الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان
في قوله …

ألستُم خيرُ من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راحٍ

أما الشاعر دُعيل الخُزاعي وهو من شُعراء العصر العباسي فقد قال في من يمتدحه …

كريمٌ إذا ما جئت للخير طالباً
حباك بما تحتوي عليه أنامِلُهُ

ولو لم تكُن في كفِّه غير نفسِهِ
لجاد بها فليتقِ اللهَ سائِله

(شُغُل نضيف لكن) !

أما في الأدب السوداني فما أكثر النماذج نثراً وشِعراً ولا أظنها جاءت كتكسير للثلج بقدر ماهي ذكر محاسن وكرم لا يرجو قائله من ورائه منفعة دنيوية

فجدنا عبد الله ود الطيب إمتدح الشريف الأمين إبن الشريف الصديق الهندي رحمة الله عليهم جميعاً في يوم زواجه قائلاً
يا بدر السماء الضويت
أب إيدن رخية
الما قال أنا سويت
إنت للشُكُر حقيت

و للشاعر الدكتور محمد بادى
سهم في ذلك في مرثية جَدٌهُ
سعيد ولد بادي العكودابي في قوله

تدي يمينو
وما تعرف حسابو شِمال
وخليك من يعرفو فلان …..
كل فضيلة في الأجداد
أبت ما تبقى في الأحفاد
ومسكت في النعُوش الطاهرة
وإندفنت مع الجُثمان
وكل مكارم العابرين
معاهم راقده في شِبرين
وبقت أمجادنا
كانوا زمان
وكانوا زمان

و في مسرحية (ريا وطه) للعبادي أن زوجة المك نمر طلبت من (ود النِعيسَان) وكان رجلاً حكيماً طلبته أن يثني المك نمر عن قتال أهلها و وضعت أمامه
(طبق سعف) ملئ بالذهب الخالص .

فلما رأه يلمع قال …

ديل خُرُوس دهب يا ملكة واللاّ عقارب

إنجهرن عِيُوني الدُنيا باقي مغارب

فوهبته إياهُ في قولها
التحت الطبق شيلو مسحة شارب
مُو قدر المقام يختى وشوية يقارب
بل و وعدته بخمسة أضعافه إن هو نجح في المُهمة

(تلجة بت لزينا لكن ……)

ولعل من ضمن أنواع المديح الساخر
هو ما ظل يطلقه ظرفائنا كالذي حرّف أغنية للكابلي
(لا أستحضِر مطلعُها)

فقال …
هِن عشّاك وفطّر
ما بِقُول عشّيت
أب فُولاً مصلّح بالبصل والزيت
شوف عيني الرغيف
(بالبوكسي) خشه البيت
و هُنا ذهب مُعظم الشُرّاح الى أن هذه القصيدة قيلت في حقبة (الإنقاذ) بقرينة أن حِمل الرغيف على ظهور البكاسي لم يكن معرُوفاً قبلها ولم يُشاهد بعدها .

ولكن يظل السُؤال المُهم وهو ….
هل كل من هَبْ و دَبْ سينجح في مُهمّة (تكسير التلج) ؟
وهل التكسير للسياسي كما هو لرجل الأعمال كما هو لشيخ الحِلّة كما هو لصديقك مثلاً
أم أن هُناك أسُس يجب إتباعها
و لكلٍ (عِدّة شُغل)
وموجهات يجب إتباعها ؟

أنتظروني غداً بإذن الله في
(كيف تُكسِّر الثلج)

السبت١١/مايو ٢٠٢٤م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى