أنظروا إلى الناس من حولنا كيف أنهم عبروا إلى أعرق الديمقراطيات. ونحن مازلنا خارج التاريخ..!! وبلادنا بما لها من موارد طبيعية في باطن الأرض وظاهرها… كان بالإمكان أن نبز حتى هذه الطفرة التنموية المجهولة في الهند. وبلادنا من الدول القلائل في العالم الثالث التي تبنت منذ صرخة ميلادها في أوائل الخمسينات من القرن الماضي النظام الديمقراطي التعددي على غرار الهند. بل إن السودان تقدم على كثير من الدول حتى في أوروبا الغربية، حيث تبنى كل ما هو إيجابي في سيداو قبل عشرات السنين، من حيث حق التصويت للمرأة وعضوية البرلمان، والمساواة في الأجر والتنافس الحر في الخدمة المدنية بين المرأة والرجل، وتمييز إيجابي للمرأة فترة الأمومة واحتفاظها بأجرها كاملاً من غير نقصان.
لكن بكل أسف ابتلي الوطن بهذه الدائرة الشريرة من الانقلابات العسكرية التي أعاقت نهوض الدولة وتشظيها، ومزقت نسيجها الاجتماعي وموروثها من الحكم الراشد، وأشعلت الحروب الأهلية التي ما برح إنسان الهامش يسدد فاتورتها قتلاً ونزوحاً ولجوءاً ونهباً للمال العام وقسمة ظالمة في السلطة والثروة.
ورغم أن الناس قد استبشروا خيراً بالتغيير، إلا أن قوى الردة والظلام أبت إلا أن تعيد الوطن إلى مربع الحروب الأهلية والتهميش، ومزقت النسيج الاجتماعي، وزجت المواطنين في أتون المرض والجوع والفقر، والتشريد داخل وخارج البلاد. وأصبحت الدولة نازحة بامتياز وعلى شفا جرف من الانهيار التام.
فهلا التقطت النخبة السياسية والعسكرية القفاز واستشعرت هذه الكارثة الإنسانية… والكل يلهث على سلطة ومتاع زائل، ولا بواكي على هذا الوطن الجريح… سلطة سوف تقوم على أنقاض أشلاء المواطنين وحطام وركام الوطن. وطن مبتور ومنبت من محيطه الدولي والإقليمي. سلطة لا تأمن المواطن من خوف ولا تطعمه من جوع. لوردات حرب يتقاتلون ولا يرف لهم جفن ولا يأبهون للملايين من المواطنين الذين تفرقت بهم السبل بعدما أخرجوا عنوة وقسراً من ديارهم. فمنهم من لاذ بمناطق الإيواء حيث يقتات بعضهم من صفق الشجر ويفرش كثير منهم الأرض ويلتحفون الأشجار والسماء. وآخرون منهم وجدوا ملاذاً آمناً مع ذويهم في الولايات، وملايين منهم لاذوا بالفرار خارج حدود الوطن حذر الحرب. منهم من وصل في قوافل التهريب وهو هائم على وجهه في شوارع مصر حيث تمتهن كرامته في أزقة وشوارع القاهرة من قبل ذوي القربى (ألم يغنِ الكابلي “مصر يا أخت بلادي يا شقيقة”؟). ومنهم من هو هائم على وجهه لا يلوي على شيء في أدغال إثيوبيا. وآخرون منهم، الله يعلمهم، قضوا نحبهم عطشاً في طرق التهريب إلى (أخت بلادي) وفي صحراء ليبيا.
متى يستشعر من يتقاتلون حجم هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في تاريخ السودان الحديث، ويجنحون إلى السلم لإنقاذ ما تبقى من الوطن والمواطنين؟ لوقف نزيف الدم والتشريد ودمار البنية التحتية التي بناها هذا المواطن المغلوب على أمره من عرق جبينه.
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في قطاع التعليم الذي يهدد مستقبل أجيال بأكملها… يتقاتلون ويضربون بعرض الحائط هذه المأساة… وهم غافلون. هذا أكبر مهدد لمستقبل الأجيال وللنسيج الاجتماعي.
ولمن ألقى السمع وهو شهيد… وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين من المحاربين. كل خراب بعد الحرب طال الزمن أم قصر يمكن إصلاحه… كل خراب في الرزق أو الزرع أو الضرع أو الشجر… إلا التعليم فهو من شأن البشر.
لن يدخل طفل إلى التعليم، إذا استمرت هذه الحرب لعامين، إلا وهو قد بلغ سن التاسعة من عمره. ونخشى العاشرة إن طالت هذه الحرب العام الدراسي الحالي.
والكل أمام مسؤولية أمام الله، ثم أمام التاريخ… اتقوا الله في خلقه… أوقفوا هذه الحرب، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
أو الطوفان قادم لا محالة… اللهم بلغت، اللهم فاشهد.