الكتاب

نبض للوطن- أحمد يوسف التاي- حكايات للتوثيق، وفهم الراهن (9) (1)

(1)
بعد عامين قضيتهما في أعمال الزراعة والمشقة، اتصل علي الإبن الأكبر للطيب مصطفى (عبدالله)، وذلك في ديسمبر 2017، وعبد الله هذا رجل رزين، وقور شفاف، ليس له اهتمامات بالسياسة فهو رجل إدارة لايتعاطى السياسة، ولايقرب ميادينها…المهم اتصل علي عبد الله، وابلغني برغبتهم في أن أعود إلى الصيحة لاستئناف عملي فيها رئيساً للتحرير،وأشار لي إلى أن الرقابة الأمنية على الصحيفة قد خفت، وهناك الآن حريات افضل، وأن القبضة الأمنية قد ارتخت قليلاً، واضاف لذلك لن تواجه مشاكل كما في السابق، والآن أنت فكر واستخير وابلغني رأيك..
قلتُ في نفسي وقد صدق حدسي، إن عدتُ للصحيفة فستعود معي الرقابة الأمنية عليها ، وقد أسررتُ ذلك في نفسي ولم ابدها لهم، وكنت اراهن على صدق ذلك، ولكني لا أريد ان أظهر التشاؤم..
ثم أمر آخر وقفتُ عنده قبل إبداء رأيي وهو ان الطيب مصطفى هذه المرة لم يتصل علي لهذا الأمر على غير العادة، قلتُ ربما كان محرجاً، او ربما توقع عدم قبولي طلبه، لكن على أية حال قلتُ أجرب للمرة الثانية..
سالتُ الطيب مصطفى في حضور ابنه عبد الله، ما إذا كان قد تغير خط الصحيفة، أو طرأ عليها في غيابي ما لا اعرفه، ضحك وقال امضي في خطك الذي بدأته، افعل كل ما يُرضي الله تعالى لانخشى في الحق شيئا..قلتُ يعني الله أكبر على الفساد ؟ قال نعم..
(2)
عدتُ للعمل في الصحيفة، لكن جهاز الأمن لم يتركني اتمهل قليلا ً،فقبل أن أكمل الأسبوع استدعوني في مكاتب الأمن، وبينما أنا في الاستقبال انتظر ساعات، فإذا بأحد هم يدعوني لمقابلة الضابط المحدد للتحري معي والذي استهل حديثه معي :(يا استاذ انت شوف النور احمد النور المسك رئيس تحرير بعدك في الصيحة سنة كاملة ما جانا هنا، ورؤساء التحرير ديل ما قاعدين نجيبهم هنا كتير، لكن انت اسبوع ماعديتو، أهو جبناك، ياخ ماتتعب نفسك وتتعبنا معاك ..
انت يا استاذ شغال معارضة بس..قلت المعارضة ليست جريمة يا سعادتك، المعارضة والحكومة عندي كفتي ميزان، ولايستقيم الحكم إلا بهما، والحكومة بكرة بتصبح معارضة، والمعارضة حكومة…
قاطعني كلام الفلسفة دا خليه، نحنا استدعيناك لأشياء محددة ثم جرى التحري المعتاد بشان ما تم الاستدعاء حوله..
(3)
واستمرت المعاناة بذات الوتيرة السابقة..
وفي ذات مساء شاتٍ ، والبردُ على أشده، اقتحم مكتبي حوالي العاشرة والنصف مساء تقريباً، أفراد من شرطة المباحث بزيهم الملكي، وطلبوا مني التحرك معهم إلى نيابة أمن الدولة، وسألتهم:(إن شاء الله خير)..
رد أحدهم:(بتعرف هناك لو كان خير او شر).. استسمحتهم مهلة قليلة كي أنهي القليل مما تبقي من عملي بالصحيفة لكي ارسلها للمطبعة، لكنهم رفضوا، فاسندت ماتبقى من عمل إلى الاستاذ يوسف الجلال مدير التحرير، ونزلتُ معهم عبر الدَرَج، وكانت بانتظارنا عربة بوكسي، هممتُ بالركوب عبر السلم الخلفي، فطلبوا مني الركوب بالأمام، فوجدتُ داخل العربة الاستاذ عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار، فسلمتُ عليه، وسألته عمّا إذا كان يعرف سبب إلقاء القبض علينا في هذا الوقت المتأخر والبرد القارس، لكني وجدته مثلي خالي الذهن ينتظر معرفة السبب هناك عندما يصل ليعرف إن كان خيراً او شراً..قلت في نفسي هو أصلاً طالما أن إلقاء القبض علينا تم بهذه الطريقة
وهذا الصمت الرهيب، أصلاً لم يكن خيراً فهو شر لا محالة..
وصدق تخميني عندما عرفنا أن المواد التي فتحوها في مواجهتنا عقوبتها الإعدام شنقاً.
المهم وصلنا نيابة امن الدولة، وجردونا من كل ما نحمل من موبايلات، او مبالغ مالية وما شابه ذلك، ووُضعنا في ركن قصي أشبه بالزنزانة، وانتظرنا رئيس النيابة حتى الواحدة والنصف صباحاً للتحري معنا…في ساعات الانتظار، حاول الاستاذ عثمان ميرغني التواصل مع اسرته هاتفياً لإبلاغهم بما جرى ولتحضير ملابس له، لكنهم منعوه من هذه الخطوة الا بعد التحري، وكان ميرغني يقول لي:( البلاغ في نيابة أمن الدولة ما فيه ضمانة ، من هنا كوبر طوالي، عشان كدى ضروري نتصل عشان يحضروا لنا ملابس..
نواصل غداً إن شاء الله، في مهزلة التحري…
اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

زر الذهاب إلى الأعلى