الكتاب

نبض للوطن- أحمد يوسف التاي- حكايات للتوثيق وفهم الراهن (7)

(1)

ذات مرة حضر إلى مكتبي رئيس لجنة حماية الحريات الصحافية، الأستاذ مكي المغربي، كان ذلك حوالي الثامنة مساءً، يحمل دعوة معنونة باْسمي وصفتي، وذلك لحضور سمنار يتعلق بشأن الحريات الصحافية، وقد وجدني الرجل (مٌربِّع يديني ومتمحن) كمن حائر به الدليل تماماً، خالٍ عن كل مسؤولية تجاه التحرير..

بعد التحية، جلس الرجل وفتح حقيبته، واخرج منها بطاقة الدعوة وناولني إياها ، فقلتُ للأستاذ مكي المغربي، سلمها إلى رئيس التحرير ذاك، أنا لستُ رئيس تحرير و(أشرتُ إلى،ضابط الأمن المناوب، الذي كان يقوم بمراجعة الصفحات)، وبالفعل هو الذي يتولى كل مسؤوليات التحرير، وأما أنا فجالس علي كرسيِّ كخيال مآته، وهل توجد إهانة للصحافة أكثر من ذلك، وكنت في أوقات كثيرة أُفكر في الاستقالة وأعزم عليها، ولكن ماكان لي أن أترك صاحب الجريدة الذي أولاني ثقة تامة ماكنتُ أتوقعها منه وقد كان يتعامل معي بأريحية وصدق كأنما هو والدي تماماً، وماكان لي أن أترك زملائي في ذلك المعترك ..

فتبسم المغربي، وهمهم بكلمات فهمتُ منها الدعاء بأن يعيننا الله على تحمل ذلك، أما الضابط نظر إلي وأسرها في نفسه ولم يبدها لي.. لكن هنا كلمة لابد من قولها والكلمة أمانة، ان الضباط الذين ياتون للمراقبة كانوا في قمة التهذيب معنا اللهم إلا هنات بسيطة كانت في البداية، ورغم هذا التهذيب كانوا لايفرطون في تنفيذ التعليمات الخاصة بالرقابة المشددة جداً على صحيفتنا دون غيرها ..

كان ضباط الأمن هم رئيس التحرير الفعلي، كانوا لايسمحون لي بأي موضوع يتناول فساد السلطة ومسؤوليها، لاصراحة ولاتلميحاً،حتى وأن كان هذا الفساد مارسه موظف في أصغر درجة، لذلك أقول أن تجربتي الشخصية هذه اثبتت لي أن أجهزة الدولة كانت تحمي الفساد، ولذلك بدت عندي قناعة تامة بأن كل ماجرى من محطة سقوط النظام ومجزرة الاعتصام وانقلاب 25 أكتوبر 2021، والحرب البربرية الحالية، وكل ما جرى من استهداف للثورة ومحاولات اجهاضها، وتعويق مسار التحول الديمقراطي ، كل ذلك له ارتباط وثيق بالفساد ، ذلك الفساد المنظم المحمي بالسلطة، واجهزتها وقوة السلاح..

(3)

ومن المفارقات العجيبة، أن الصيحة إذا غطت مؤتمراً صحفياً أو فعالية عامة، مثلها مثل الصحف، ونقلت حديثاً عاماً فيه إشارة لفساد ، أو إقرارٍ بتجاوزٍ ما على لسان أحد المسؤولين حتى وإن كان هذا المسؤول هو البشير نفسه، لايُسمح لنا بنشره بينما كل الصحف كانت تتسابق في نشر ذلك، وفي اليوم التالي تصدر صحيفتنا باهتة ضعيفة، بينما تنشر بقية الصحف ماتريده ، وهذا بالطبع امر مقصود لإضعاف الصحيفة، وإبعاد القراء عنها وإعطائهم الإنطباع بأن الصحيفة تم تطويعها وتحولت إلى نشرة حكومية حتى لاتكون مؤثرة في الرأي العام ، ومع ذلك كان قراء الصيحة أكثر ارتباطاً بها، ويعرفون كل تفاصيل ما يجري وماهدف إليه النظام.

(4)

حاول كثير من رجال المؤتمر الوطني وبعض رجال الأمن إرغام الراحل الطيب مصطفى على فصلي، أوستبدالي برئيس تحرير آخر، لكنهم فشلوا أمام حائط صد إصراراه عليّ وتمسكه بإسناد هذه المهمة إليّ، وكان يقول لي (وأُ شهد الله على ذلك) ما بيني وبينك خوة لوجه الله تعالى يا التاي ، لا فيها مصالح دنيا ولاتجارة..

وكان يقول أثناء بعض الإجتماعات أن نجاح الصيحة إرتبط بحراسة التاي لها وهمته العالية، فهو رئيس التحرير الوحيد الذي تجده كل الوقت صباحاً ومساءً يحرس صحيفته ولا يتحاوم …رغم كل ذلك، ورغم هذا التقدير الذي يكنه لي والقناعة التامة بأني حارس أمين لصحيفته، لكنهم أرغموه، ووضعوا أمامه خيارات صعبة جداً، فإما إستمرار الصحيفة، وإما طرد هذا العبد الفقير إلى رحمة مولاه، وقد اختار الخيار الأخير مُرغماً..

نواصل …..

اللهم هذا قسمي فيما أملك…

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

زر الذهاب إلى الأعلى