الكتاب

نبض للوطن- أحمد يوسف التاي – حكايات للتوثيق وفهم الراهن (8)

(1)
استمرت الرقابة الأمنية القبلية الاستثنائية المفروضة على “الصيحة” تسعة أشهر، لم ننشر فيها قضية فساد واحدة، ولم نتعرض فيها لمسؤول فاسد وذلك لهيمنة جهاز الامن على الصحيفة، وبعدها رفعت السلطات الأمنية الرقابة القبلية عنا لتحل محلها الرقابة البعدية (أي بعد النشر) وهي رقابة تنطوي عليها عقوبات واستدعاءات من قبل جهاز الأمن بعد النشر ومصادرات للصحيفة بعد إكمال طباعتها وهذه الخطوة تترتب عليها خسائر مادية كبيرة جداً على الناشر..وبعد كل تلك المعاناة وتضييق السلطات على الصحيفة لم نغيّر خطنا المناهض للفساد والاستبداد، ولهذا لم تمر ثلاثة أيام إلا وتجدني بمباني جهاز الأمن اقضي سحابة يومي بالاستقبال إلى ان يتم التحري معي فيما اُستدعيتُ بشانه…
من المفارقات أن تم استدعائي ذات يوم وتحروا معي حول السبب الذي دعاني لخلو صحيفتي من (مينشيت) في تغطية خبر عام للبشير خرجت به كل الصحف عنواناً رئيساً عدا الصيحة التي كانت لديها خبطة صحفية تميزها عن بقية الصحف..تلك الصحف جعلت عنوانها الرئيس مشتركاً لخبر الرئيس البشير والذي سبقها فيه التلفزيون القومي وبقية القنوات ووكالة (سونا) قبل عشرين ساعة.. استمرت المصادمة إلى أن ابلغتُ من الجهاز بقرار شفهي بمنعي من الكتابة، وهي السابقة الاولى أن يُمنع رئيس تحرير من الكتابة، وتكرر إيقاف عمودي بالصحيفة لعدد ست مرات.. وبعدها ماذا حدث؟…
(2)
تفاجأتُ برسالة مسربة في الوسائط بين مدير الإعلام بالجهاز مرسلها لآخر في الخاص، ضلت طريقها إلى العام فتداولتها القروبات ونشرتها المواقع الإلكترونية..
الرسالة من ذلك الضابط إلى شخص آخر من أقرباء الطيب مصطفى تقول الرسالة:(الطيب مصطفى نصحناه كتير، وحذرناه وقلنا ليهو التاي دا بودي جريدتك الخور ولكن ماعايز يسمع الكلام، ياخ ما عايز يشوف مصالحو.). وفي الرسالة تهديد للراحل، نشرت صحيفة حريات وموقع الراكوبة الخبر تحت عنوان:(جهاز الأمن يهدد الخال الرئاسي بإبعاد التاي من رئاسة التحرير)..الحق أني لم أهتم كثيرا بهذه الرسالة التي ضلت طريقها من الخاص للعام، وتلاقفتها الوسائط، ولم انزعج، لكني ادركتُ أن أيامي بالصيحة قد انتهت أو باتت على أصابع اليد الواحدة، هذا فضلاً عمّا أعرفه من ضغوط كانت تُمارس على الطيب مصطفى للإستغناء عني..
(3)
لم يكتف الجهاز بكثرة الاستدعاءات لشخصي والتي تصل في الأسبوع ثلاث مرات أحياناً، بل كان الجهاز يصادر الصحيفة بصورة شبه مستمرة بعد طباعتها ويمنع توزيعها على المراكز والوكلاء، ولم يفك حظرها إلا بعد الساعة العاشرة، وفي هذا الوقت ينتهي زمن التسويق للصحيفة تماماً ولاتصلح إلا للبيع بالكيلو، وفي ذلك خسائر مادية فادحة ، وذلك لإضعاف الصحيفة وإرغامها على ترك خطها المناهض للفساد المحمي بالسلطة..هذا بالإضافة لمنع الكتاب المؤثرين من الكتابة وإيقافهم لفترات متفاوتة، امثال محمد عبد الماجد، وعبد الباقي الظافر ونحوهما…
إلى جانب ذلك كانت الصحيفة تشهد سيولا من البلاغات والمحاكمات، والمضايقات، ومع كل تلك الضغوط ظل صاحب الجريدة صامدا، إزاء هذه الخسائر، لم تلن له قناة، حتى لجأ مضطراً إلى رهن منزل ابنائه، وباع سيارته الخاصة، وسيارات ابنائه..إلى أن وصل الأمر العضم…
(4)
وفي مساء جمعة، وبعد أن أكملنا شهرين بالصحيفة عقب رفع الرقابة الإستثنائية القبلية عنا، في ذلك المساء ، حضر الطيب مصطفى إلى مكتبي من غير العادة، وكان يبدو منزعجاً وحزيناً، قال لي يا التاي اخوي، أنا والله مضطر ومرغم جدا على…قاطعته قائلا بعد ان سمعتُ غصةً في حلقه، وعبرةً في عينيه كادت أن تنزل، قاطعته: لاتكمل يا باشمهندس فأنا سأقدم استقالتي عن صمت دون ضجيج أو جدال، ودون حرج على أحد..هذا الموقف على ما بدا لي أزمه أكثر، وأصرّ على ان ابقى بالصحيفة في وظيفة مستشار تحرير او مدير تحرير بمخصصاتي
لكني رفضتُ الأمر رفضاً باتاً وقدمت استقالتي، وتحت وطأة إصراره وعدته بأن يستمر عمودي بالصحيفة إذ رأى رئيس التحرير نشره فبها، وإلا حجبه وفقا لصلاحياته..
قدمتُ استقالتي، وغادرتُ الخرطوم إلى أعمال الزراعة في آخر الصعيد…
نواصل…
اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

زر الذهاب إلى الأعلى