نوستالجيا الهجرة إلى الماضي
الحقيقة المريرة تقول أن ماضينا مبهج أكثر من حاضرنا .. ذلك الذي غرق في أحماض قسوة صنعناها بغفلتنا وقلة حيلتنا وإستغراقنا في لجاجة الفرقة والتشرذم .
الحقيقة الفيزيائية تقول أن الزمن يسير في خط مستقيم إلى الأمام ولا يعود للوراء ولكننا وجدنا خيالنا يتحدي تلك الحقيقة الفيزيائية فينقلنا للماضي بعد أن أكلت دابة الحنين عصا المعاني لدينا فلم ندرك قصر المعاني إلا بعد أن ضاقت العبارة لدينا بما رحبت ووجدنا في الماضي مخزوناً من الرؤى التي تدغدغ مشاعرنا بخدر يريح أدمغتنا من كوابيس الحاضر.
أذكر أنني كتبت مرة أنه
كانت فى بيتنا شجرة ليمون وشجرة جوافة وشجرة حناء .. وفى كل عام كان الخريف ينثر على أوراقها شوقه وحزنه .. وما بين غصن وغصن كان الخنفس الكدندار ذو اللون المعدنى الأخضر يتحرك وأنا أرقبه مبللاً بالندى فأستنشق رائحة وعبقاً كانت تنشره شجرة الحناء .
ولأننى انفتحت على الطبيعة منذ وقت مبكر كانت جملة الأصوات التى التقطتها من تلك البيئة تختلط مع غناء أبو داؤود من الراديو الوحيد في بلدتنا من (ديوان) المرحوم محمد إبراهيم هدية وتمتزج وتستقر فى ذاكرتى كطبقة شعورية لها رنين مستمر.. وحمل ذلك العبق معه الى تلافيف الذاكرة صوت الفنان أبو داؤود وهو يغنى رائعة شاعر مدينة الابيض محمد على عبدالله الامى (أحلام الحب) ولحن ساحر الأنغام برعي محمد دفع الله فصرت عندما أشم تلك الرائحة
منبعثة من أى شجرة حناء في أي مكان يأتينى صوت أبو داؤود .
زرعوك فى قلبى يامن كسانى شجون
ورووك من دمى يا اللادن العرجون .
فصرت عندما أشم تلك الرائحة .. تدق على ابواب ذاكرتى تلك الاغنية معلنة موسم الدخول فى أشواق عميقة :
يا الباســم الهادى
نـورك سطع هادى
مـاذا اقـــول ؟
فى سناااااااك
بيكا الدلال عادي
ويتحرك صوت أبو داؤود في تحرك نغمي جديد معلناً ومؤكداً :
شايقانـــى فيك بسمة
سمحة ومليحة لــــونْ
عاجبانى فيك قامـــــةْ
ساحرانى فيك عيون
ومن قمة ذلك الوجد وتلك الأشواق يرتفع صوت أبو داؤود معاهداً
هيهاتْ أسلو هواكْ
يا حبيبى اسلو هواك ْ
مهما أعترانى جنُونْ
أنا لى لقاك صادي
لو فى الخيال راضي
وشئ من تهدئة اللعب والإمساك بالمشاعر حتى لا تهرب من فضاء اللحن والنغم طارحاً قضيته المصيرية أمام محاكم المحبين الساهرين الحافظين موثق الأحبة :
خصمى هواك .. يا وديع
والسؤال الأزلي (القفلة)
من يا ترى القاضى؟
كيف تستدعي حاسة الشم كل هذا ؟ هذا هو “الما معقول ” فى علاقتي بفن أبوداؤود . إن الفن الحقيقى هو الذى يجعلك تفسر العالم والطبيعة من خلاله .. هو الذى يجعلك ترى الأشياء المتنافرة تجذب بعضها لتتحد معك وأنت سابح فى محراب الدهشة وأنت تردد: “ما معقول “.
فإذا خطر بذهنك لحن أو نغم وانت تقف فى إنتظار “الحافلة” فأعلم إن هناك خيطاً غير مرئي يجمع مكونات هذه اللحطة ببعضها.
ونفيق إلى حاضر ووافع لا يسر أحداً ، وتصبح مواسم الهجرة إلى الماضي فرض عين تعيننا على تحمل الحاضر .
وأشتغفر الله لي ولكم .
محمد ود عبدالله ودالريّح .. الفي المدينة صيّح
ولكي أحكي ما سأحكيه اليوم إلى واقع آخر تذوب فيه الحقيقة المجردة داخل غلالات من الحلم الشفاف .. ذلك الحلم الذى نقبله فى إطار قوى اللاوعى .. حيث أن تلك المنطقة لها إعتباراتها الخاصة بها . إذ كيف تتداخل الأصوات والصور لتخلق واقعاً خارج نطاق المحسوسات ال