(1)
تقول الحكاية أن إعرابياً نحوياً كان يسير في الصحراء تحت هجير الشمس وسمومها اللافح وكانت له بنتاً يافعة رديفةً على دابته وقد اخذ منها العطشُ مأخذاً، وكانت تردد:يا أبتي لقد عطشتَ..يا أبتي لقد عطشتَ “بفتح التاء” وكان الأب النحوي يتجاهل نداءها لأنه مغتاظ وغاضب من فتحها للتاء في (عطشتَ) عوضاً عن ضمها (عطشتُ) وكأنه يعاقبها بتجاهل استغاثتها، حتى سقطت ميتةً، فألقى عليها نظرة الوداع وقال: ألا تقولين لقد “عطشتُ” يا بُنيتي..!!.
(2)
وحكاية أخرى مماثلة تقول أن نحوياً سقط من فرسه فكُسرتْ يدُه فأسرع إليه أحدهم لنجدته وتطبيب كسر يده هو يقول: يدِك يدِك ، فاغتاظ النحوي من صاحبه وقال قولةً مشهورةً:( والله لَكسرُ يدي أهونُ عليَّ من كسرِ الدالِ في فمِكَ )..
(3)
في كثير من الأحوال نجد في أنفسنا من الغيظ يا يفوق المثالين السابقين ونحنُ نرى إنحداراً خطيراً في أساليب الكتابة الصحافية، وانحرافاً مريعاً في استخدام بعض العبارات الموغلة في الشتم والسباب والتجريح، ونُشهدُ الله أن الكتابة الصحافية بريئةٌ من هذا الإسفاف والإنحدار ..الكتابة الصحافية هي فنٌ رفيع يعبر عن قضايا ملحة بموضوعية ولغة رفيعة ورزينة تنتقي الكلمات بعناية لتتناسب مع الموقف تفاعلاً وتوصيفاً لتوصيل الرسالة..
(4)
من خلال متابعتي طوال الفترة الماضية لكثير من كتابات الزملاء لفت إنتباهي كثرة استخدام أساليب موغلة في العنف لدى البعض..موغلة في السباب..موغلة في الإنفعال حتى لكأنك تتمثل لك صورة الكاتب ممسكاً ب “ساطور” أو “عُكاز” أو “بسطونة” في أحسن الأحول، مكفهر الوجه غضبان أسفاً، والناس من حوله يهدئونه..بعض هذه الكتابات أقل ما توصف به أنها مجرد (نبز) يطفح بالألفاظ البزيئة في ساحة “شكلة” هدفها النيل من الخصم وإشانة سمعته واغتيال شخصيته والولوغ في عرضه…وهي بعيدة كل البعد عن أسلوب الكتابة الصحافية، ولاتمتها بصلة ابداً..
(5)
كنا حتى وقت قريب نطالع كتابات “الهواة” على مواقع التواصل الإجتماعي خاصة ا”لفيسبوك” و”الواتساب”، فنجد العجب العجاب من كل أنواع الإساءات والسباب والتجريح والتنابز والشجار والإنفعالات، لكننا في نفس الوقت نجد لهؤلاء العذر فمعظمهم لم ينالوا حظاً من التعليم، وبالكاد “فكوا الخط”، ومن بينهم الفاقد التربوي، وفيهم من جُبل على إساءة، الآخرين وسبهم، فهؤلاء لليس منهم خطر لأنهم ليسوا إعلاميين ولاصحافيين وليسوا مدنيين بصناعة الرأي العام ولاتنوير المجتمع ولا تثقيفه ..فكانت الفرصة مواتية ليتأثر هواة الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي إيجاباً بالكتابات الصحافية الرزينة، وكان العشم أن يجتهد كل الصحافيين في ترقية الأذواق من خلال كتابات رزينة وانتقاء عبارات هادئة وهادفة لا تسيء أحداً ولاتخوض في عِرض أحد ولاتشتم أحداً ولاتسخر ولاتحتقر أحداً، لكن للأسف أن الذي حدث هو العكس تماماً إذ أن كثيراً من الصحافيين صناع الرأي العام أصبحوا يقلدون هواة الكتابة بوسائل التواصل الإجتماعي وقع الحافر بالحافر حتى لكأنك تجد بالمقال الصحافي إساءات مثل : ( ياحمار يا كلب..داعرة، حرامي، الدعارة السياسية، السكير فلان ، كلاب السفارات الخونة الأندال سجم الرماد ..الخ..)
(6)
للأسف الشديد أن بعضاً من الزملاء استهوتهم كتابات هواة الفيسبوك ومجموعات الواتساب وانحرفوا نحو الدرك السحيق، وبدلاً من أن يعلموا الناس ويصنعوا رأياً عاماً مستنيراً ويرفعوا مستوى الوعي وترقية الأذواق انحرف البعض لتسويق لغة التنابز بالألقاب والاسم الفسوق وترويج الشائعات ، فأصبح حال بعضهم كحال “الخواجة” الذي جيء به لتعليم “العوض” اللغة الانجليزية، فتأثر الخواجة بلغة العوض وأسلوبه في الكلام والحياة حتى إذا ما جاء والد العوض ليأخذه تفاجأ بسؤال الخواجة له : (بدِّور العوض).؟..
(7)
الكتابة الصحافية ليست مجرد إنفعالات ومجموع إساءات وإسفاف وتفاهات تقال وتكتب..بل هي معالجة لقضايا ملحة بلغة رزينة مقنعة تفرض احترام خصوم الكاتب قبل اصدقائه، وهي وظيفة للتثقيف والتنوير وليس تسويقاً لبضائع فاسدة.. والكتابة ليست جسراً للوصول به إلى حزب أو مسؤول لإرضائه بالإساءة إلى خصومه، وإن فعل ذلك الآخرون الانتهازيون فلاينبغي لصانع الرأي العام أن يجاريهم ويقلدهم..
أكثر ما آلمني وبلغ عندي الأمر منتهاه عندما طالعتُ كتابة أحد رؤساء التحرير بأحد القروبات يستخدم عبارة “كلب” و”حمار” وما عرفتُ عنه من قبل إلا الرزانة والتواضع ولين الجانب والهدوء ولغة الأرقام والموضوعية………وعليه أقول :
خلاص الحكاية وصلت “العضم” بعد اللحم” الحي”
…حتى أنت يا مُعلمي ..
حتى انت يا أستاذي المهذب..
اللهم هدا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق انه يراك في كل حين.