الكتاب

نبض للوطن .. أحمد يوسف التاي : قراءة في دنيا العيون النازحة

خاص - صوت السودان

(1)

دمعاتٌ طفرتْ حرَّى، استعصتْ على عصيِّ الدمع الذي شيمتُه الصبرُ أن يحتبسها ، والأخرى مازالت أسرَى يمنعها الإيمانُ والاستمساك بالصبر من النزول ..تلك كانت قراءة في دنيا العيون النازحة..

فأما التي طفرت لمّا غاض الصبرُ فقد كان حالها حال “الحلنقي” حينما هاجر بالخيال مع عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو، وكان حالها أيضاً حال أسطورة الطرب والفن السوداني محمد وردي، حينما أطلق إحساسه دون كابح ليغرد بذات الكلمات الموغلة في الحنان والحنية:

هجرة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو…

هيّج رحيلا مع الغروب إحساس غلبني اتحمَّلو…

وكتمت أشواق الحنين داير الدموع اتقَّلو…

ورجعت خليت الدموع يرتاحو مني وينزلو…

وأما التي مازالت أسرى حالها حال الوطن الجريح، وعلى ظهره النازحون المشردون يقطر من أعينهم الدمع السخين على جرح الوطن فتتضاعف آلام الجِراح فيحبس الوطن دمعه نبلاً وصبراً واحتسابا..

(2)

في مدرسة متهالكة بأقصى المدينة مهددة بالسقوط قبل موسم الخريف تقبع هناك بصحبة أسرتها أجمل “نازحة” ماعرفت المدينة مثل جمالها قط…

المدينة (العمياء) تحسست جمالها فقط فعرفته وجهلت الكثير عن تلك النازحة ذات الثمانية عشر ربيعاً، فما قدرتها حق قدرها وقد كان يرفل في ثوبها العز..

ماعرفت أخلاقها العالية ولادينها الذي أحسن تربيتها وأدبها فكان لها مكملا ومجملا وراعيا وَوِجاء، وماعرفت المدينة مكانتها الإجتماعية الرفيعة قبل الحرب، قبل ان تقع في شباك حرب لا ناقة لها فيها ولابعير، حينما كانت كالملكة في قصرها وسط وصيفتها وخدمها وحشمها في رغد من العيش..كل ذلك وغيره الكثير تجهله المدينة (العمياء)، ومع ذلك بدت راضية بقضاء الله وأقداره التي لاتنطوي إلا على حكمة وتدبير..

لئن افترشت هذه النازحة الأميرة التراب والتحفت السماء ،وبحثت عن رغيف عيش حاف ولم تجده، وعن كوب ماء بارد ولم تجد…ولئن هاجمتها جيوش الذباب نهاراً وأسراب البعوض ليلا ولم تذق طعم الراحة ولا النوم نقول لها تذكري أُخيّة لكِ هتكت الذئاب شرفها وانتهكت حرماتها، بعد أن رأت بأم أعينها أباها مضرجاً بدمائه، وأخاها سابحاً في بركة من الدم القاني..ألا يستوجب ما أنتِ فيه الحمد ،فمن يرى مصائب الناس تهون عليه مصيبته..

(3)

في مسجد الحي الطرفي،وقف يسأل الناس شيئاً، ويشكو الضيم وقلة الحيلة والزاد، فدخل في نوبة من البكاء بصوت عالٍ… تذكر ما آل إليه الحال وماهو فيه من هم وغم ،

فبكى واستَبْكَى من حوله وخرج مسرعا من المسجد كأنما قرر إنهاء حياته الساعة ولم يلتفت للمبالغ التي بدأ الناس في جمعها..

ولئن ضاقت بك الحال أيها النازح المبتلى فاصبر واستمسك بالله فما لحوادث الدنيا بقاء فالذي ابتلاك بالعوز وضيق العيش وفقدان المال والعمل فقد ابتلى غيرك بزوال المال والولد والجاه والسلطة في هذ الحرب اللعينة ، ولو أنك علمتَ يقيناً أن الله سيبتلينا في ما آتانا، والصابرون منا هم الفائزون لما أصابك كدر ولاهَم…

(4)

فصبراً أيها المبتلون بحرب “البسوس” فإن خيوط النور قد تسربت من غسق الليل فما يبصرها إلا الصابرون الواثقون في نصر الله، ولينصرن الله من ينصره، ألا فانتصروا لله على انفسكم أولاً، وتذكروا أن الضيق يعقبه الفرج، وتذكروا أن هناك من فقد كل شيء ولم يبق له شيء، وتذكروا أن ما يحدث الآن بكل اسقاطاته سيصبح من الماضي وقصص التأريخ وإنما يُوفى الصابرون اجرهم بغير حساب….

اللهم هذا قسمي فيما أملك..

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائماً في الموضع التي تحبُ أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى