الكتاب

حسن فضل المولى يكتب.. الحبر يوسف نورالدائم .. سحر البيان

إننا نعيش أياماً قاسية ..
و ( الفقد ) في اضطراد و تعاظم ..
إذ يُقَدِّر الله ، سبحانه و تعالى ، أن
يمتحننا كل يوم برحيل من يَعِز
علينا فراقه ..
و هذه أيامٌ يصطفي فيها الله ،
عز وجل ، قوافلَ من الشهداء ،
الذين تتعطر الأرض بدمائهم
الزكيه ، و هم يفْدُوننا ، و يزودون
عنا ، و يتعبدون ربهم بالقتال في
سبيله ، و هم في عجَلةٍ من أمرهم ،
ولسان حالهم ،،
قوله تعالى ..
( و عَجِلْتُ إليك ربي لترضى ) ،
و لو استعرضت مسيرة كل
( شهيد ) في الحياة ، تجده مُتلهِفاً
للقاء ربه ، فما أن يسمع هَيْعةً
أو نداءً ، إلا و أسرع خفيفاً و اجِفاً ،
ليلقى ربه مُقبلاً مُكبراً واقفاً ..
و ( الشهادة ) يتسع نطاقها ليُظل
كلُ من مات و هو ساعٍ في خير
نفسه و ماله و أهله و موطنه ..
و أحق بالشهادة العلماء ، ورثة
الأنبياء ..

و ها قد فارق الحياة ، و أقبل على
الله ، ركنٌ من أركان بلادي و أوتادها ..
العالِم البروفيسور ( الحبر يوسف
نور الدائم ) ..
و هو إذ يرحل ..
فقد رحل عَالِمٌ أحسبه من أهل ( الله ) ،،
و أرجو أن يكون كذلك عند ( الله ) ..
و أشهد مع من شَهِدوا له بالصلاح
و الفلاح ..
و من شهد له الناس بالخير فهو
لاشك خيِّرٌ و من شهدوا له بغير
ذلك فهو كذلك ..
و نشهد له بأنه قد أنفق عمره
مُلازماً للقرآن ، قراءةً و تَدَبُّراً
و تعلُّماً و تفسيراً ..
و يشهد له بذلك خَلقٌ كثير ..
عن ( أبي الأسود ) قال ..
قَدِمْتُ المدينة فجلست إلى
( عمر بن الخطاب ) ، رضي الله عنه ،
فمرّّت بهم جَنَازَةٌ ، فأُثْنِي عليها ،
فقال ( عمر ) : و جَبَت ..
ثم مرَّ بأُخرى فأُثني على صاحبها
خيراً ، فقال ( عُمر ) : ( وَجَبَت ) ..
ثم مرّ بالثالثة ، فأُثني على صاحبها
شراً ، فقال ( عمر ) : ( وجبت ) ..
قال( أبو الأسود ) : فقلت :
( و ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ ) :
قال : ( قلت كما قال النبي ،صلى الله
عليه وسلم ) :
( أيُّما مسلم شهد له أربعةٌ بخير ،
أدخله الله الجنة ) ، فقلنا : ( و ثلاثة ؟ ) :
قال : ( و ثلاثة ) ، فقلنا : ( و اثنان ؟ ) ،
قال : ( و اثنان ) ،
( ثم لم نسألُه عن الواحد ) ..

لقد كان ( الحبر ) ..
عالِماً نحريراً ،،
و فقيهاً مُتَبَحِراً
و أديباً أريباً
و جمع بين عُمق الفهم في العلم ،
و حسن الأداء في إيصاله للناس ..
و هو في ذلك يمزج الفائدة بالمُتعة ..
و هذا ما ما كان يأنسه فيه تلاميذه ،
و مرتادو دروسه ، و متابعو برامجه
المبثوثة ..
و كنتَ تراه إذ يقف محاضِراً ، قد
ألقى الله عليه هيبة العلم ورونقه
و بهاءه و أنواره الكاشفة ..
و لما كنت أحد تلاميذه ، في
( المرحلة الجامعية ) فإنَّ أُنْسِي بحديثه و هو يتدفق ، كان عظيماً لا يوصف ، و ذلك لسلاسة السرد
و عُمقه و احاطته ، و كيف كان
يسوق بين يدي دروسه طرائف
تناسب موضوعاتها مثل ..
سأل رجلٌ أحد علماء اللغة :
( ما الكموج ؟ ) ..
فقال له : ( أين قرأتها ؟ ) ..
قال : ( في قول امرئ القيس :
” و ليلٍ كموج البحر” ) ..
فقال له :
( الكموج دابةٌ تقرأ و لا تفهم ) ..
أو ..
قال رجلٌ لنحوي : ( أتأمرني بشيئاً ؟ ) ..
قال : ( بتقوى الله ، و إسقاط الألف ) ..
أو ..
جاء رجلٌ إلى الشعبي ، و قال :
إني تزوجت امرأةً فوجدتها عرجاء ،
فهل لي أن أردها ؟ ، فقال له :
( إن كنت تريد أن تسابق بها فرُدها ) ..
و هذه ( الطرائف ) و إن كانت مما
تنسب لآخرين ، إلا أنها من جنس
ما كان يرويه شيخنا ( الحبر ) ،
ترويحاً عن النفوس و القلوب ،
إذا رأى منها كَلالاً ..

كان من أحب تلاميذ البروفيسور ( عبدالله الطيب ) ، إلى قلبه ،
و أدناهم منه مكانةً ، حيث اغترف
من معينه أدق دقائق علمه
( بالقرآن ) ، و العربية لغة ( القرآن ) ..
و لم يكن مقلدا له ، بل اختط
لنفسه طريقاً ، يخصه و حده ،
و يميزه دون سواه ..
و عندما توفي أستاذه و شيخه
( عبدالله الطيب ) ، رثاه بقصيدة
عصماء ، شارفت على ( الخمسين )
بيتاً ، سكب فيها من حبه و مشاعره
و احساسه بفقده له ، ما يُوجع
و يُعزِّي و يبعث على الوفاء ..
و هذه أبيات منها و هي طويلة ،
و عصيَّة على الاستيعاب من أول
وهلة ..
( ذهب الذي قد كان واحد دهره
علماً تواصل و العلوم سفير
علم حواه الصدر منك فلم
نكن إلا بنور من ضياك نسير
علم تفجر من جنان صادق
جم الفضائل ما لهن نظير
الصبر منك سجية محمودة
يا من بصبرك أبرد المحرور
سارت بذكرك في الأنام نجائب
غر الوجوه و غرد العصفور ) ..
و ( الحبر ) شاعر ..
شاعرٌ لا يُبارى و لا يُجارى ..
له ديوان بعنوان ( أنفاس القريض ) ،
ضمنه ( خمسة و عشرين ) قصيدة
لن تقوى على استيعاب مفرداته ،
و مكنون معانيه ، إلا باصطحاب ( القاموس المحيط ) للإمام اللغوي ( مجد الدين الفيروز آبادي ) ،
و قد وقفت على قصيدة له بعنوان ( موجة الحر ) ، فَرَاقَ لي ( العنوان ) ،
و لكن استشكل علي فهمها ،
فتراجعت عن إيرادها هنا ..

و ( الحبر ) كان مولده في
( السروراب ، الريف الشمالي ،
أم درمان ) ..
و بالرغم من أنه حاز أعلى الدرجات
العلمية ، و نال درجة ( الدكتوراه )
في ( أدنبرة بأسكتلندا ) ،
وكان موضوع رسالته ، ( الإمام
الطبري ) ، إلا أنك و أنت تستمع
إليه ، و هو يحدثك بالساعات
الطوال ، لا تلمس في حديثه لَكْنَةً مُسْتغربة ، كعادة ( المُتعالِمين ) ،
فلا ( إذْ ) و ( لا إتذْ) و لا كلمة من
فصيلة ( أيشن) ..
يحدِّث بلسانٍ عربي مُبين ، و بلغة
عذبة تستسيغها كالماء الزُلال ..
و كان رداؤه الزهد ..
و سمته التواضع و لين الجانب ..
و كان بسيطاً ، بساطة تنفذ إليك
و تأسرك و أنت تقترب منه
و تستمع إليه ..
و قِوامه التدين ،،
و هو تدين راشد ، لا إفراط فيه
و لا تفريط ..
و يُقبل على الناس بحُبٍ و مودة ..
و ضالته الحكمة ، يأخذها من أيِّ
إناءٍ خرجت ، دون تصنيف أو
مواقف مسبقة ..
و في لقاء مطول ، سأله الأستاذ
( بهاء الدين أحمد السيد ) ، عن
( محمد إبراهيم نقد ) فقال :
( التقيت به في مناسبات عامة
كثيرة ، و ربما تكون للحظات ،
و يدور بيننا حديث ، فأقول
له مثلاً :
“إنت يا نقد لي متين بترضع في
الشطر الميت ده ؟” ، و أنا طبعاً
أقصد حكاية الشيوعية ، فيرد لي
على طول :
“يَحْرَدَن بنات القطينة ،
أنا الآن سكرتير الحزب الشيوعي
أجي أقول ليهم خليتكم” ..
فأقول له :
“دي زي لولا يُعَيِّرك بها
بنو فُلان لاقررت بها عينك” ..
و أحياناً أتحدث عن صلاته ، و حقيقة من ناحية خُلق ، أنا أفضله عن كثيرٍ
ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين ،
مع شيوعيتو دي ، وفي تقديري أن
الشيوعيين السودانيين في الغالب
لا يأخذون الشيوعية بفلسفتها
الإلحادية ، و نقد كان يصلي بل
لديه فهم في التصوف و الإسلام ،
و هو رجل لطيف جداً ، في أحد
الأيام قابل أبنائي ، في “أبو روف”
و عرِفهم ، و كان حابي يسألم عن
بيت شخص ، و بعد أن سلموا
عليه و أرشدوه إلى البيت الذي
يريده ، قال لهم :
“جزاكم الله خير ، و الله الليلة
هديتو ليكم شيوعي” ) ..

و أحسنت ( الإذاعة السودانية ) ،
و هي تبِرُ المستمعين ببرنامج
ممتد بعنوان ( سحر البيان ) ،
و هو برنامج يبحث في وجوه
التأويل و البيان في ( القرآن الكريم ) ..
و ( البرنامج ) من تقديم دكتور
( أكمل طه حسين ) ، وفي
التسجيل و المونتاج ، ( علي
محمود طه ) ، و ( عبدالعزيز
إبراهيم الطاهر ) ، و من إخراج
( منير عبدالوهاب ) ..
و أحمد لصديقي المخرج الألمعي ( حامد عثمان ) أنه قد انتبه إلى هذا البحر الزاخر بالعلوم و المعارف ،
فاجتهد و ثابر ، في استنطاقه ، لينجز
لنا سلسلة حلقات ، غاية في الجمال
و الروعة ، بلغت ( المائة و عشرين ) ،
بعنوان ( أحسن الحديث ) ، من
إعداد ( علي عبدالرؤوف ) ،
و ( صلاح نوفل ) ، و من إخراج
( عادل عوض ) ، و إنتاج ( حامد
عثمان ) ..
تمنيت يومها أن لو فزنا بهذا
البرنامج في ( قناة النيل الأزرق ) ،
عندما عرضه علي الصديق ( حامد) ،
إلا أن ( قناة الشروق ) ، استمسكت
به ، و ما كان أمامها غير ذلك ..
و يحكي أخي ( حامد ) عن
ملابسات إنتاج البرنامج و بثه قائلاً :
( عندما فكرت في إنتاج “برامج”
معه ، ذهبت “لقناة الشروق” ،
ولم نصل لاتفاق مع الاخ الصديق “محمد خير فتح الرحمن” ، في
توقيت البث ، فقلت له دون ان
يكون بيني وبين “حسن فضل المولى”
اي اتصال ، إن هذا البرنامج لو
عرضته على “النيل الأزرق” ستتم الموافقة فورا ، وبرهنت على ذلك بمكالمة بعد انتهاء الاجتماع معهم ، وقد صدق “حسن فضل المولي”
ظني حين وافق وقال : “تعال لي الآن” ، فلما أخبرت الاخ “محمد خير”
بالمكالمة ، وجه ادارته بالاتفاق على الوقت الذي نراه مناسبا للمشاهدة ) ..
و أنا كان لي أجر النية ، إن شاء الله ،
و البرنامج ما مشى بعيد ، و صديقنا
الباشمهندس ( محمد خير )
يستحق كل خير ..

و وقفت له على حديث مرئي قيل
إنها آخر وصية له ، قال فيها :
( طلب مني دكتور “عوض سيد
أحمد” وصية لإخواننا فأقول :
إن رسول الله ، صلى الله عليه
و سلم ، قُبض و لم يُورِّث شاة و لا ديناراً و لا بعيراً ، و لكنه ورَّث علماً ،
من أخذه أخذ بحظ وافر ، و نحن
من غير هذه الدعوة لا نساوي شيئاً..
( وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ )
نحن أيها الإخوة مع من يقول :
“أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم”..
الدنيا كلها إلى زوال ، فهي ظل
زائل و عارية مسترجعة ..
و نحن الحمدلله وُفِقْنا إلى هذا
الطريق القويم ، طريق الإسلام ،
فكيف الواحد منا يرتد على أدباره
إذا رأى فتناً ، و هو ما أشار إليه
الرسول ، صلى الله عليه وسلم ،
بفتَنِ كقطع الليل المظلم ،
و المخرج منها ، كتاب الله ، إن
استمسكنا به نجونا ، و بغير ذلك
فليس هناك من سبيل ) ..

و أنا لا شيء يحزنني أكثر من موت
عالم ، و قد جاء في الحديث :
( إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ
منَ النَّاسِ ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ ، حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا ، فسُئلوا فأفتوا
بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا ) ..
و قد وقف أهلُ العلم عند قوله
تعالى :
( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها
من أطرافها ) ، و أشاروا إلى أنَّ ذلك
يقع بموت العلماء ..
وقيل ( لسعيد بن جبير ) ما علامة هلاك الناس؟) ..
قال : ( إذا هلك علماؤهم ) ..
و نحن اليوم برحيل البروفيسور
( الحبر ) ، نفقد عالِماً ، في علوم
القرآن ، و السيرة ، و اللغة العربية ،
نسأل الله أن يتقبله و يجزيه عنا
خير الجزاء ..
و السلام ..
الثلاثاء ٢١ نوفمبر ٢٠٢٣ ..

زر الذهاب إلى الأعلى