في ما أرى.. عادل الباز | ليلة القبض على الباز
1
قررت أن أبعث ببرقية شكر لمؤلف خبر “القبض على الباز” لأنه قدم لي خدمة جليلة على المستوى الشخصي، وأضحكني وأبكاني في الوقت نفسه.
قال لى صديق إن الشعب السودانى شعب لطيف يؤلف قصتك ويرويها أمامك ويضيف لها ما شاء الله له أن يضيف، مما يجعلك تبتسم وأنت مندهش.
2
ما القصة؟ ماذا أضحكك وما أحزنك أيها المقبوض عليك؟
الأسبوع الماضي نشرت الوسائط الاعلامية أن كاتب هذه السطور تم القبض عليه بواسطة الشرطة القطرية (كده عديل علماً بأن الشرطة القطرية لا علاقة لها بالقبض) ومنذ ذاع الخبر تلقفته وسائل التواصل وضجت به الأسافير وهي تعجبك في النقل السريع للهراء.. ولأنني نادرا ما أتابع الوسائط التواصل ، وانفق وقتي بين الكتب والقراءات المفيدة والتقارير العميقة والأفلام الممتعة والمباريات الساحرة ، نبهني صحفي بأن هناك خبراً منتشراً في الأسافير يحكى قصة القبض على الباز..
أها قالوا السبب شنو؟
والله ماعارف قريت العنوان
بس!!
بالله؟
يا لك من صحفي مدهش تلفح العناوين وتهرول بها للأسافير وإن كان الخبر عاريا من اى مصدر ومحض هراء!
لم آبه للخبر إذ أنني ادرك إذا تابعت الاقاويل سأنفق وقتي في الفراغات، ظللت أتلقى بعد كل مقال الآلاف من الشتائم والاتهامات.. مرة أضحك ومرة أحزن لكننى لا أرد لأنني لا اطيق التعامل مع نفايات الأسافير.
3
بعد أن ذاع الخبر وأنا ماجايب خبر بدأ سيل من رسائل الأحباب والأصدقاء يتدفق على بريدى الإلكترونى وبالرسائل الخاصة وفى قروبات الواتساب، كما انهمر سيل من الاتصالات التليفونية للاطمئنان على المقبوض عليه (الباز)، جزى الله الشدائد عني كل خير.. إذ أن لي أصدقاء وأحباب لي زمن بفتش ليهم ومشتاق لسماع أصواتهم، واعتقدت أنهم نسوني بعد أن تفرقت بنا السبل فى أركان الدنيا.
كنت أنفي لهم الخبر سريعاً وأقول لهم ضاحكاً (يا جماعة اطمئنوا والله مافي زول قبضنى وكما أنني لم أقبض سوى الريح من هذه الغربة اللئيمة) وأدلف مباشرة إلى ماضي الذكريات وتلك الأيام.
أجمل ماحدث أن لي حبيبات (لعلمكم هن كُثر) من أيام الزمن الجميل اتصلن بعد غيبة سنين (أصلو المحبين الحنان لا بينسوا لابتحولوا)، رحمة الله على عثمان خالد وبن البادية، لقد تأكد لي وأنا على أبواب الأربعين (شفتو كيف) اننى لازلت مذكورا ومحبوباً، ما أجمل أن يذكرك الأحباب ساعة المحن أو الفتن.. لا يزال الزمان أخضر يفيض بالمحبة. لولا ذلك الخبر لقتلتني الأشواق للأحبة. لعنة الله على الزمن اللهث لم يترك لنا وقتا للمحبة (أنا والأشواق بقينا أكثر من قرايب).
4
كثير من زملائي الذين رافقتهم فى دورب الصحافة وزملاء القلم عبروا عن مشاعرهم بالاتصال والكتابة على أنني سعدت كثيراً بسياسيين وقادة أحزاب اتصلوا بي، ولم تكن تجمعني بهم صداقة أو حتى معرفة عميقة وهم من شتى الاتجاهات، فأدركت أن ما نسهم به فى الحياة العامة عبر كتاباتنا يلقى صدى وتقدير. على أنني سعدت أيضاً باتصال بعض أصدقائي من القحاتة الذين يصنفونني عدواً وفلول قد اتصلوا وكانوا حقاً قلقين، قال لي أحدهم ضاحكاً (يقبضوك كيف ونحن منتظرين نقبض عليك بواسطة لجنة التفكيك في حكومتنا القادمة)؟
قلت له لو جيتكم راجع اشنقوني!
5
أما أهلي الجعليين السناهير كتر خيرهم قد عملوا البدع، فكونوا من وقتهم لجنة للاتصال بالسلطات القطرية لإطلاق سراحي فوراً، وكلفوا خالي البعثي الثوري والقائد الكبير والمعارض حالياً لقحت، علي الريح السنهوري؛ بقيادة مبادرة عاجلة لتسوية الأمر وناشدوا الرئيس البرهان الذي سيزور الدوحة مارس القادم بالتدخل لإطلاق سراحي!!
6
أما ما أحزنني هو أن بعض الصحفيين الذين كافحنا عمرنا كله نعلمهم أن خبراً بلا مصدر (عهر)، لم ينتبهوا أن الخبر الذي ذاع بالقبض على الباز ليس له مصدر معلوم، وظلوا يتداولونه فى قروباتهم الصحفية للأسف، من دون أن يسأل أحدهم عن مصدره وخاصة أن هذا الخبر الذي يمس زميل بل وزملاء لهم، ثم إن الأسوأ أن أحداً منهم لم يكلف نفسه بإرسال رسالة نصية مستعجلة للتأكد من الخبر من الزميل الذى تم القبض عليه، وهاتفه متاح فى كثير من القروبات، ومعلوم لدى مئات الصحافيين.. كثيراً ما حذرت زملائي من التعامل مع الأخبار التي تدلق فى قمامات الوسائط، وما ألحظه حالياً أن كثير منهم يقتاتون منها ويدورون أخبارها بينهم في مواقعهم المتنوعة والكثيرة (إلى الآن آخر احصاء 450 موقعاً نشطاً أغلبها مجهول الهوية والشخصية ومصادر التمويل).. دون أن يتثبتوا من مصادرها مما يجعل الصحافة الإلكترونية التي تقتات من القمامة بائسة ومشوشة فاقدة لأي مصداقية.. كانت صالات التحرير لوقت قريب ولا يزال بعضها تلتزم بقيم المهنية، ولا تنشر خبراً يعوزه المصدر، ولا تفبرك التصريحات، ولا تلتقط عمال على بطال الأخبار من أفواه الملتاثين، الذين لا وزن لحديثهم فى الرأي العام، ولا صفة لهم في أحزابهم، ولا قيمة لتصريحاتهم في الحياة العامة.
لقد صدق الكاتب الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو حين قال أدوات مثل تويتر وفيسبوك (الواتساب برضو) تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، و كان يتم اسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل .. إنه غزو البُلهاء) فإذا كان البلهاء والحمقى هم المصادر التى تعتمد عليهم الصحافة السودانية؛ إلكترونية وورقية في تحقيقاتها وأخبارها فعليها السلام، وعلينا أن نحزن على عمر ضاع فى دهاليز الصحافة، نُحدّث فيه الصحافيين عن أسس ومعايير الصحافة المهنية.
ختام
للذين فاتتهم متابعة اصل الحكاية ننشر التوضيح الذي نشرناه ثلاثتنا (الباز ومزمل وضياء) حول الخبر عديم الأصل الذى ذاع وعم القرى والحضر.. (نفى الأساتذة، عادل الباز ود. مزمل أبو القاسم وضياء الدين بلال؛ الخبر الذي نشره أحد المواقع الإسفيرية، وزعم فيه أن الشرطة القطرية ألقت القبض عليهم في قضية نشر تتعلق بالصّفقة المُثيرة للجدل، بين شركة زبيدة موتورز العالمية والبنك الزراعي السوداني، لتوريد أسمدة المُوسم الزراعي في شهر مايو من العام قبل الماضي، وأكّد الصحافيون الثلاثة أنّ ما نشره الموقع كاذبٌ ومغرضٌ وعارٍ تماماً عن الصحة، وأنّ الغرض من النشر إشانة السمعة، سيما وأن شركة زبيدة حركت إجراءات قانونية في مواجهتهم في شهر سبتمبر من العام 2021، بعد أن تناولوا قضية متعلقة بعقد مثير للجدل، تم إبرامه بين شركة زبيدة والبنك الزراعي السوداني لتوريد مائتي ألف طن أسمدة (من دون عطاءات)، ولم يتم تحويل البلاغات إلى المحكمة حتى اللحظة، بعد أن وردّت الشركة ثلاثين ألف طن فقط من مجمل الكمية المتعاقد عليها، ومقدارها مائتا ألف طن من أسمدة الداب واليوريا، وطالب الصحافيون الثلاثة بإحالة البلاغات التي حركتها ضدهم الشركة إلى المحكمة المختصة كي تقول كلمتها فيها، وتحدد ما إذا كانت صفقة الأسمدة التي أبرمها البنك الزراعي السوداني مع شركة زبيدة قانونية ومستوفية للشروط الواردة في قانون الشراء والتعاقد والتخلص من الفائض أم لا، وأكدوا أنهم شرعوا في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه الموقع الذي استهدف إشانة سمعتهم بخبرٍ كاذبٍ ومغرض).