الكتاب

قبل فوات الأوان: على منظمة الإيقاد التدخل في جنوب السودان

د. عبد الله ادريس

إن الراجح أن حركة السيولة التي يشهدها جنوب السودان منذ استقلاله في 2011م تهدد تماسك الدولة بل ووحدة أراضيها، وذلك وفقا للسيناريوهات المتوقعة التي يتفق كل من يتابع الأحداث أنها سيئة ما لم يكن هناك تفكير ونظرة موضوعية تُبصر من خارج الصندوق لحلحلة القضايا الشائكة هناك.

وحقيقةً.. الأمر يحتاج إلى منهج حل غير تقليدي، لأن كل الاتفاقيات التي وقعت ذهبت أدراج الرياح في زمن وجيز بعد توقيعها، خاصة أن الإيقاد، الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة كلها عاجزة عن فعل شيء، على الأقل حتى الآن، هذا ما أكده الباحث المختص في قضايا القرن الإفريقي بصورة عامة وجنوب السودان بصورة خاصة دكتور محمد سليمان الذي استنطقته مجلة سوداناو في هذا الأمر.

في بداية تحليلية أوضح دكتور محمد سليمان أن انتقال الأوضاع بدولة جنوب السودان إلى مربع الأزمة بصورة متسارعة، لم يكن مفاجئة لأن الكثير من أحداثها كانت متوقعة، ولكن سقوط الناصر في يد الجيش الأبيض كان هو ما نبه المراقبين إلى خطورة الأوضاع بجنوب السودان خاصة بعد تدخل القوات اليوغندية للدفاع عن نظام الرئيس سلفاكير.

وقال المختص في شئون دول القرن الإفريقي إنه :(سبقت أحداث الناصر قرارات رئاسية شكلت خروقات واضحة لاتفاقية السلام المنشط الموقعة في الخرطوم في العام 2018م، وأعقبت ذلك إجراءات وقرارات حكومية أجهزت تماماً على اتفاقية السلام المنشط). وأضاف أن حكومة الجنوب اتهمت المعارضة التي يقودها دكتور رياك مشار النائب الأول للرئيس بأنها وراء هذه الأحداث، فيما اجتهد إعلامها في إثبات هذه التهمة. لكل ذلك دخل الجنوب في حالة احتقان سياسي وأمني كبيرين، وأصبحت نذر المواجهة بين الحكومة وأكثر من طرف معارض وربما مسلح تحتاج فقط إلى من ينزع فتيل الاشتعال داخل جوبا!

القشة التي قصمت ظهر البعير:

وأشار الأكاديمي والباحث محمد سليمان إلى أن السبب الجوهري لهذا النزاع هو رغبة الرئيس سلفاكير في تعيين بول ميل نائباً له في موقع جيمس واني ايقا، وهو ما حدث، وكان من الممكن أن يتم دون ربطه باتفاق السلام المنشط، لكن ذلك الأمر اقتضى بعض الإجراءات التي شرعت فيها حكومة الجنوب منذ فترة ولم تنتهِ بعد، و المتوقع هو إجراء بعض التعديلات داخل الحركة الشعبية لضمان أن يحل بول ميل موقع الرئيس سلفاكير عند خلوه، وهي إجراءات تواجهها عقبات كبيرة داخل الحركة الشعبية الأم ليست محل بحثنا الحالي.

واعتبر أحداث الناصر مظهراً للصراع وليس سبباً له ولكنها القشة التي قصمت ظهر البعير، وتعود أحداث الناصر بالأساس إلى حالة التضييق والمحاصرة التي تمارسها حكومة الجنوب ضد دكتور رياك مشار الذي أصبح عاجزاً عن تقديم أي شيء لأنصاره بصفة عامة وأهله النوير على وجه الخصوص، وهي حالة استمرت منذ توقيع اتفاقية السلام المنشط وتزداد بوتيرة تتناسب بصورة طردية مع حالة الفشل في تنفيذ الاتفاقية، وترجع بالأساس لقرارات اتخذتها منظمة الإيقاد التي أشرفت على توقيع اتفاق السلام المنشط.

هذا الواقع هو ما دفع نوير الناصر واللاو نوير للخروج عليه وعلى حكومة الجنوب، وهما يمثلان 50% من قبيلة النوير، لذلك فإن أحداث الناصر التي قادها الجيش الأبيض من اللاونوير والجيكانق يصعب الوصول إلى تسوية بشأنها في المدى القريب- على حد قول دكتور محمد سليمان.

القفز من مركب اتفاقية السلام المنشط:

وعن ربط أحداث الناصر بتعيين بول ميل أوضح دكتور محمد سليمان أن حكومة جنوب السودان ترتب للخروج من اتفاقية السلام المنشط وتسجيل أسباب ذلك على الحركة الشعبية بالمعارضة، كما أضاف أنها- أي حكومة الجنوب – تخطط في ذات الوقت ومنذ فترة ليحل بول ميل مكان سلفاكير حيث تشير معلومات متداولة بأنه لم يعد قادراً على مباشرة مهام الحكم.

أما التخطيط للتنصل من اتفاقية السلام المنشط فيعود لصعوبات موضوعية في تنفيذ الاتفاقية، كان من الأوفق حلها بحوار خارج صندوق الاتفاقية، وهو حوار لم يفت أوانه بعد، لكن ظاهرة القفز من مركب الاتفاقية دون مشورة الأطراف هو ما يدخل الجنوب في دوامة صراع يصعب الخروج منها . أما التوجه لإحلال بول ميل محل الرئيس سلفاكير فقد اتخذت الحكومة في

إطاره عدداً من القرارات أهمها الآتي:

إبعاد كل من الجنرال أكور جوك جوك، المستشار توت قلواك، ومدير هيئة الاستخبارات العسكرية بعد توجيه عدد من التهم في حق بعضهم، علماً بأنهم يشكلون فريقَ ظلٍ يعمل بتجانس منذ توقيع الاتفاقية.

إبعاد كل من جيمس واني ايقا وحسين عبد الباقي من منصبيهما وتعيين بول ميل نفسه في موقع جيمس واني إيقا وجوزفينا جوزف لاقو في موقع حسين عبد الباقي، وإقالة حسين عبد الباقي كانت ضرورية لإحداث بعض التوزان على مستوى رئاسة الجمهورية وفتح الطريق لبول ميل الذي هو أيضاً من شمال بحر الغزال.

أدت التعديلات أعلاه إلى جملة من الأزمات منها الهجوم على منزل الفريق أكول كور بعد اعتقاله وإلى توتر كبير على الساحة الجنوبية. لكن الأخطر من ذلك أن بول ميل بعد تعيينه كان سبباً في إقالة عدد من الشخصيات المنتمية إلى رياك مشار من مناصبها الدستورية، ولذلك أصبح الطريق إلى أحداث الناصر مفتوحاً، فحدثت كتداعيات لكل ذلك.

نذر الحرب اصبحت على الأبواب:

وعن أثر سقوط مدينة الناصر في يد المتمردين على مجريات الأحداث قال دكتور محمد سليمان (إن الحكومة اتخذت جملة من الإجراءات والقرارات التي ضاعفت من التوتر الموجود أصلاً)، وأجمل تلك القرارات في التالي: –

إقالة والي ولاية جونقلي المعين حديثاً وتعيين دكتور ريك قاي كوك بدلاً عنه، والوالي المقال من مجموعة الاحزاب السياسية (سوا) الموقعة على اتفاق السلام المنشط.

إقالة والي ولاية أعالي النيل التابع لرياك مشار وتعيين الفريق جون كونق بدلاً عنه، وجون كونق هذا من المنشقين من دكتور رياك مشار.

دخول القوات اليوغندية إلى الجنوب واتخاذها قواعد عسكرية خارج جوبا، حيث قامت بقصف القوات المتمردة في الناصر بالطيران.

التعبئة لتحرير الناصر، ويشارك في هذه الحملة كل من مليشيات الشلك بقيادة جيمس اولونج ومليشيات من الدينكا من شمال أعالي النيل، علماً بأن جيمس أولونج من المنشقين عن رياك مشار.

وخلص الباحث والمختص في شؤون جنوب السودان إلى أن حكومة جنوب السودان ضربت باتفاقية السلام المنشط عرض الحائط، كما أن القيود المفروضة على دكتور رياك مشار قد تضاعفت وانتهت بإقالته واعتقاله، وأن نذر الحرب أصبحت على الأبواب.

السيناريوهات المتوقعة:

استفاض دكتور محمد سليمان في شرح السناريوهين المتوقعين لمسار هذه الأزمة، لكن تم إيجازهما في أن السناريو الأول يتوقع اندلاع حرب بين حكومة الجنوب وقبيلة النوير تنتشر في كل ولاية أعالي النيل الكبرى فقط، حيث تعمل الحكومة على التعبئة لحرب المتمردين بالناصر، وقد بدأت الحرب فعلاً،. وملامح تحقق السيناريو الأول تتمثل في الآتي: –

لا تملك الحكومة خياراً غير محاربة المتمردين بالناصر.

بدأت الحرب فعلاً ويصعب حسمها إذا دخل الخريف.

تماسك جبهة النوير بالناصر، وفي السابق كانوا يتحاربون في مثل هذه الأوقات.

في إطار التعبئة، أصبح قادة ولايات أعالي النيل الكبرى الثلاثة من أبناء النوير، مما يؤكد التخطيط للقضاء على الحركة الشعبية بالمعارضة الأكثر تمثيلاً لأبناء النوير.

السند الخارجي للنوير من أبناء النوير الناشطين.

أما السيناريو الثاني فيتلخص في توقع اندلاع حرب شاملة في جنوب السودان تنطلق شرارتها من جوبا، كما ذكر دكتور محمد سليمان.و تتمثل ملامح تحقق هذا السيناريو في الآتي:

اضطراب الأوضاع في إقليم أعالي النيل وتعطيل تنفيذ اتفاقية السلام المنشط، بالإضافة إلى ظهور حركة تمرد في ولاية واراب، وتمرد آخر في ولاية غرب الاستوائية.

وجود حركات متمردة لها موقف معارض سلفاً لما تقوم به حكومة الجنوب، وقد بدأت تنشط عسكرياً على مستوي شرق الاستوائية.

توقع اضطرابات وتمردات داخل الجيش الشعبي بسبب الأوضاع المعيشية وعدم صرفهم لمرتبات القوات لفترة طويلة.

وجود حالة توتر كبير بجوبا وحالة استياء شعبية بسبب الأوضاع الاقتصادية ورفض الجنوبيين لتدخل القوات اليوغندية مع ضعف أداء جهاز الأمن بعد إبعاد الفريق أكول كور.

التداعيات وأثرها على السودان:

أكد الباحث والأكاديمي في شؤون القرن الإفريقي عامة وجنوب السودان خاصة، أنه في حال تحقق السناريو الأول لا يستبعد أن تكون التداعيات المتوقعة كالتالي:-

انتقال الحرب لكل مناطق النوير.

استحالة تحقيق السلام في ظل وجود حكومة الجنوب الحالية.

ربما أدى الحال إلى انفصال إقليم أعالي النيل الكبرى عن جنوب السودان.

أما في حال تحقق السيناريو الثاني فإن تداعياته المتوقعة تنحصر في:

فقدان السلطة المركزية بتفكك الجيش الشعبي وتحول دولة جنوب السودان إلى دولة فاشلة.

خروج الجميع من جوبا فراراً بجلدهم.

وعن أثر السيناريوهين على السودان قال:( لا خلاف في أن اندلاع حرب بالجنوب يزيد من حجم المشكلات والتحديات التي تعاني منها منظمة الإيقاد، كما أن اقتراب القوات اليوغندية من الحدود السودانية مع وجود التمغر الإماراتي المعروف والمشهود يعد خطراً كبيراً على الأوضاع بالسودان والإقليم، وبالتالي إعادة التوتر للعلاقة بين جنوب السودان والسودان، مع توقع موجات لجوء للسودان، وربما وقف تصدير البترول. وهذه الأمور مجتمعة سوف تشكل مهدداً حقيقياً للدولتين وتحديات لدول الإقليم.

بداية الحل إطلاق سراح دكتور رياك مشار:

ولخص دكتور محمد سليمان الأمر قائلا (بصفتي من المشاركين في إعداد اتفاق السلام المنشط والذي وقع لحل مشكلة دولة جنوب السودان بالخرطوم بجانب اتفاقيات مماثلة أخرى، مضيفا أن اتفاقية السلام المنشط غير قابلة للتنفيذ لأسباب يطول بحثها، ويضيف أن الحل يكمن خارج تلك الاتفاقيات (بتفكير خارج الصندوق)، مشدداً على أنه لابد من التدخل والتدخل السريع من قبل منظمة الإيقاد لإطلاق سراح دكتور رياك مشار كما فعلت في السابق لتمهد إلى اتفاق السلام المستقبلي، كما مهدت لتوقيع اتفاق السلام المنشط نفسه، مبرر ذلك الأمر أن تحرير نائب الرئيس ضرورى لقيادة أي حوار بناء يتفادى عيوب الماضي ويُخرج دولة جنوب السودان من حالة الاحتقان القائم الآن، ويجنبها شبح حرب لعينة لا تُبقي ولا تذر، وذلك قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى