(1)
النزوح بكل آلامه، وأوجاعه وشعوره القاتل بالذل والضعف والهوان ، يظل هو الأفضل من حالة أخرى يرى فيها الشخص عزيز لديه يموت بوباء الكوليرا ولايستطيع إنقاذ حياته لعدم وجود مستشفى قريب لاستقبال الحالة، ولعدم وجود نقود تكفي لنقل المريض، ولإنعدام أبسط الخدمات الصحية ومقومات الحياة..
وسيظل النزوح بكل مراراته أفضل من حالة يرى فيها الرجل أطفاله يتضورون جوعاً ولايستطيع أن يسد رمقهم وهو يعيش بينهم أسوأ أنواع الحصار والمنع والحرمان والنهب والسطو…
منعٌ وحرمانٌ من السلطات، ونهبٌ وسطوٌ من الميليشيا المتفلتة…
سلطات الأمن تمنع عنهم المؤن والمواد الغذائية ولا تسمح باستجلابها من الولايات الآمنة بحجة الحرص على عدم وصولها إلى أيدي الميليشيا فيعيشون بؤساً وحرماناً..
والميليشيا المتفلتة تقطع عليهم الطريق وتسطو على كل مواطن يحمل ولو (مخلاية) بها كيلو سكر وكيلو دقيق، وملوة بصل وقارورة زيت فيعيشون عوزاً وقهراً…فلك الله أيها المقهورُ الشريدُ الذليلُ في وطنه.
(2)
الوضع القاتم أعلاه هو صورة من صور المعاناة التي يعيشها مواطنو قرى محلية الدندر..
أعلم يقيناً وبما لايدعو مجالاً للشك أن أهلنا في أكثر من 150 قرية بمحلية الدندر يعيشون محنة حقيقية ومأساة فظيعة تعجز عن وصفها الكلمات..
فهؤلاء المقهورون المحرومون المظلومون يقاسون شتى أنواع الظلم والهوان والعذاب.. الميليشيا المتفلتة تهاجم قراهم صباح مساء تقتل وتنهب وتسطو وتمارس الإذلال والإفقار وتسومهم سوء العذاب وتسرق اللقمة من أفواه أطفالهم ولاتدع لهم ما يسد الرمق..
ووباء الكوليرا الفتاك يحصدُ الأرواحَ الآن ،في ظل إنعدام الخدمات الصحية وحتى الاسعافات الأولية ، والإصابات بهذا الوباء اللعين تتمدد وتنتشر شرقا وغربا كالنار في الهشيم، وعدد الوفيات مرشح للتصاعد في ظل الجوع والغياب التام للمرافق الصحية والخدمات الطبية والفقر المدقع والعوز البائس.
(3)
رغم هذه الأوضاع الصعبة نجد السلطات في ولاية القضارف (وحدة الحواتة) تمنع عنهم المؤن والمواد الغذائية، حيث قررت مؤخراً عدم السماح بنقل أي مواد غذائية ضرورية مثل الدقيق والسكر والزيت والبصل ولو بأقل مقدار للفرد ..سلطات الحواتة لاتسمح لأي مواطن حتى بنقل خمسة كيلو سكر مما صاعد حدة المعاناة والبؤس هناك وحوّل قرى الدندر إلى بيئة مهيئة لحصاد الاوراح بفقر الدم والكوليرا التي يغذيها الجوع ويمسك بخطام صاحبها إلى الموت ..وقبل شهر منعت ذات السلطات مزارعي الدندر من القدر القليل من الجازولين بحجة الحرص على عدم وصوله إلى أيدي “الدعامة” رغم التعهد بحماية المزارعين وتجهيز قوة لتأمين الموسم الزراعي، لكن (كلو طلع فالصو) فخرج المزارعون من الموسم الزراعي كما تريد الميليشيا المتفلتة تماماً..
(4)
الحقيقة التي يعرفها كل الناس وتلجمهم الدهشة إزائها هي أن الدعم السريع الآن محاصر داخل مدينة الدندر بسبب إنقطاع الطرق الداخلة إلى المدينة والخارجية منها من ناحية الشرق ولايستطيع مع هذا الانقطاع التحرك بقرى شرق الدندر مما يجعلها خالية من وجود تلك القوات إلا من بعض “النهابة” وقُطّاع الطرق وهؤلاء قوة ضعيفة وتسليحها خفيف، وكل الظروف حالياً مهيأة للقضاء على هذه العصابات المتفلتة، ومع ذلك يعجز والي سنار عن فعل أي شيء، خاصة وأن الدعم السريع محاصر داخل المدينة وداخل كلية البيطرة وقرية حويوا وانقطعت عنه طرق الإمداد بسبب الفيضان والأمطار الغزيرة وباستطاعة أي قوة قليلة الآن أن تقضي على النهابة والميليشيا المتفلتة والعصابات بشرق الدندر وتؤمن حياة المواطنين هناك بتوفير الأمن والمؤن والغذاء وإيقاف عمليات المجازر المستمرة من جانب النهابة أصحاب المواتر، ووضع حد لسيول الكوليرا التي لاترحم… ولكن لا أحد يحرك ساكن وكأن هؤلاء المواطنون يعيشون في كوكب مجاور لكوكب الأرض.
(5)
إذن أيها السلطات بدلا عن منع المواطن من توصيل خمسة كيلو سكر وشوية عدس ودقيق لأطفاله حركوا قوة قليلة فقط لتأمين الطريق له.
فما الذي يمنعكم، أم أن الأسهل عليكم هو حصاد أرواح المواطنين بالجوع والكوليرا ورصاص الدعم السريع؟؟..!!
(6)
رسالتنا الأخيرة لوالي سنار..
اخرج من صمتك وفُقْ من صدمتك، أفعل شيئا…تحرك لفك الحصار عن رعاياك الجوعى والمرضى، الذين يعيشون الآن بين برزخ الحياة البائسة والفناء الرحيم، فهذا من أوجب واجباتك الدينية، ومسؤولياتك الأخلاقية ،فكيف لك أن تشبع ورعيتك جائعة ، ومعافى في بدنك والكوليرا تفتك بشعبك المفجوع، وكيف ترى أولادك واحفادك في مأمن وأطفال الرعية يتهددهم الجوع والمرض وبإمكانك الآن الآن تحريك قوة من خمسين مسلح فقط لتأمين شرق الدندر بعد أن كفاكم العمدة صالح مؤونة حماية وتأمين غرب الدندر…واعلم يقينا أنك تقدر على ذلك ولكنه نقص القادرين على التمام…
وتذكر كم مرة وقفتَ أمام مواطني الدندر تشحذ هممهم وتستنفرهم للتبرع فلايبخلون..
اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.