(1)
بات جلياً أن قطار الصراع الدولي على أرض السودان قد بارح محطة التخفي خلف الكواليس وأزاح عن وجهه القناع ليظهر للعلن ويبدو للعيان على أنه صراعٌ مكشوفٌ ذو أهدافٍ مكشوفة، ولعل حرب الخامس عشر من أبريل 2023 بما كان فيها من تدخل سافر قد سلّطت المزيد من الأضواء على إتجاهات وأهداف هذا الماراثون الدولي الذي انطلق على أرض السودان بقوة من خلال الدعم العسكري الخارجي، ويجسد هذا التدخل بشكل أوضح طلب واشنطون من انجمينا السماح للجنود الامريكيين بالإشراف على طائرات المساعدات الإنسانية القادمة للسودان وذلك بعد فشل مفاوضات جنيف.
(2)
تثاقُل خُطى روسيا والصين وإبطاؤهما في مضمار السباق على أرض السودان وربما ذهدهما في فترة ما، وكذا القطيعة الدبلوماسية بين الخرطوم وطهران في الفترة السابقة…كل ذلك جعل واشنطون تتحرك بارتياح دون الشعور بخطر المنافسة في ميدان السباق الدولي في الأراضي السودانية خلال الفترة الماضية، وبقيت على حالة من الترقب والتردد حتى بعد مرور عام على “حرب أبريل”..
(3)
ثمة أمر آخر جوهري وعلى درجة عالية من الأهمية، أبقى الإدارة الأمريكية على حالة الترقب والانتظار تلك و هو أن أمريكا كانت تعوِّل على سيطرة الدعم السريع على الحكم، لطالما أنها كانت تبارك وتبتسم سراً لكل الدعومات العسكرية الإماراتية التي كانت تصل إلى أيدي الدعم السريع.
(4)
الحقيقة العارية التي رآها العالم كله وشهدت بها الأمم المتحدة عبر تقاريرها الرسمية ووثقها السودان بالوثائق والمستندات في شكواه الرسمية ضد الإمارات، الحقيقة العارية تلك دللت على وجود مخطط دولي خطير اُستُخدٍمت فيه الإمارات والدعم السريع كأداة من أدوات الصراع لهذا المخطط الذي حاول أحد أضلاعه أن يلعب دور الوسيط المحايد بعد فشل الحل العسكري، متلفحاً بغطاء الأوضاع الإنسانية لتحقيق مافشل فيه “الداعمون” و”المقاتلون” بينما استمر الضلعان الآخران في إخفاء نفسيهما.
(5)
بعد فشل “الداعمين” و”المقاتلين” في تحقيق أهداف المخطط الدولي، لجأت أمريكا إلى حيلة أخرى وهي مفاوضات “جنيف” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحقيق هدفين مهمين: الأول رفع الحرج عن الإمارات وإنقاذها من الورطة والأوحال التي غاصت فيها بعد أن ثبت للعالم تورطها في حرب 15 أبريل، وذلك بخلق دور لها وهو دور المراقب لمفاوضات جنيف التي فشلت وتحويلها من متهم إلى مراقب.
والهدف الثاني هو إيجاد مخرج لإفلات الدعم السريع من أي عقوبات دولية قد تطاله بسبب الاتهامات الخطيرة التي تواجهه من إبادة جماعية واغتصاب وجرائم حرب وإيجاد دور سياسي له في المستقبل من خلال مفاوضات “جنيف” وتحسين صورته لدى الشارع السوداني الذي مابغض شيئا الآن أكثر من ” الدعم السريع”..
(6)
الإدارة الأمريكية وبعد فشل الخطة( أ) القائمةعلى الحل العسكري ، والخطة (ب) القائمة على مفاوضات “جنيف” التي أرادت لها أن تقوم على أنقاض اتفاق جدة، لابد لها من خطة بديلة..خاصة بعد أن وصلت لقناعة تامة بأن الجيش السوداني ماعاد يرضخ للتهديد بالعقوبات وأنه لم يعد له ما يخشى عليه وهو يخوض حرباً يرى فيها الدعم العسكري من “أشقائه” ينساب إلى عدوه عبر “جيرانه”..ولاسيما أن الجيش السوداني اتجه شرقاً لإبرام التحالفات والاتفاقيات العسكرية مع المعسكر الشرقي ذلك الند والخصم العنيد لدى أمريكا والغرب…كل هذه الظروف الجديدة والملابسات دفعت أمريكا لتسريع بحثها عن الخطة البديلة، وذات الظروف هي التي ستحدد شكل الخطة وبُعدها التاكتيكي ولا نقول الإستراتيجي، لأن أمريكا في تعاملها مع السودان لم تفكر قط في مسألة التعامل الاستراتيجي.
(7)
بعد فشل الخطة (أ) و(ب) من المتوقع أن تسير واشنطون في تعاملها مع السودان في خطين : إما المهادنة والسياسة والحيلة وتلطيف الأجواء مع السودان وترغيبه عوضا عن الترهيب لقطع الطريق أمام التقارب مع الدب الروسي والمعسكر الشرقي عموما، وإطلاق رسائل تعكس “تجاهلها” أو “تخليها” عن الدعم السريع لمزيد من الترغيب والإجراءات والتخدير..
ووفقا لهذا السيناريو ربما تشهد الأيام المقبلة الحديث عن حوار سوداني أمريكي وتعاون عسكري وحديث مستقبلي ووعود عن الاستثمارات والهبات والمنح كل ذلك في إطار الخطة البديلة لاحتواء السودان وتعطيل مساره نحو الشرق…
وأما الخط الثاني، ربما تلجأ أمريكا إلى ممارسة الضغوط والتضييق والعقوبات والحظر ،والإستمرار في مساندة الدعم السريع عبر دول عربية وافريقية ودعمه بالسلاح تحت لافتة المساعدات الإنسانية التي تسعى أمريكا للإشراف عليها..غير أن هذا الإتجاه تكتنفه كثير من الصعوبات التي يبدو معها أشبه بمغامرة خطيرة في ظل توجه السودان نحو الشرق، بخلاف المهادنة والسياسة والعمل الدبلوماسي.