(1)
في مدينتي الصغيرة التي ظلت تستقبلُ وتودعُ نازحي الحرب كل يوم، استوقفني منظر عربة دفار تقف إلى جانب الطريق، وبداخلها نساء وفتيات وأطفال وطفلات عليهم آثار الإعياء والرهق والمسغبة، وعيونهم تنبيك عن ضيمٍ وإنكسار، ذلٍّ واحتقار.. وتقاسيم وجههم تحدثك عن ظلم وقهر استعصى على اللسان فضحه وبيانه، ربما لأنه أكبر من أن تصفه الكلمات…
سألتُ إحدى النساء المسنات بالمقعد الأمامي:
لماذا لم يكن بصحبتكنّ رجال؟..
(والله يا ولدي الرجال معانا في الدفار دا ، لكن خجلانين ساااي ومندسين ،لأنو الحصل لينا وحصل ليهم دا الجبال ما بتتحملوا..) هكذا اجابت وغصةٌ في حلقها وأسىً مطويٌ بين جوانحها، ولسانٌ يستثقلُ الكلمات من فُرط مرارة الهوان والإذلال..
مولانا الطيب إبراهيم وكيل اول النيابة بالدندر استوقفه المنظر الحزين أيضاً، فربّت على كتفي وشاركني الحديث مع الحاجة المسنة، وسألها حينما عرف من أين انطلقت رحلة الأسى والأذى، سألها عن مولانا وكيل اول النيابة بمنطقتهم ، ومحامٍ مشهور، فقالت (هم برضو راكبين ورا في الدفار، وفلان معه زوجته واطفاله!!) وذكرت معهما من بدا لي من الأعيان هم أيضاً بالدفار..
فهرع مولانا الطيب يبحث عن صديقه وزميله بين الذهول والدهشة والحزن العميق..يبحث عنه داخل “الدفار” فوجده، فما أحوجتنا وجوههم المعفرة بالتراب وعيونهم الغائرة التي تحتفظ ببقايا دموع متحجرة ما أحوجتنا أبداً إلى سؤال وهل في مثل هذا المقام يُسألُ المرء عن اوجاعه وآلامه ولسان حاله يردد أغنية وردي: (تنبيك عن سؤالك أحوالي)..
(2)
وفي محطات أخرى من فصول مأساة الجزيرة سمعنا من أفواه النازحين الهاربين من الجحيم قصصاً لم يروِ مثلها التأريخُ ابداً..
فإذا كان التأريخ قد روى لنا أن اجتياح بغداد واستباحتها وانتهاك حرمات أهلها استمر لمدة ثلاثة أيام فقط فإن استباحة قرى الجزيرة وانتهاكات حرمات أهلها وإذلالهم ومسلسل إهدار كرامتهم بدأ منذ نصف عام ولايزال الجرح ينزفُ دماً وخذلاناً وانكساراً في عيون الرجال قبل النساء ، وكل يوم حكايات يندي لها الجبين وتستمطر الدمع السخين ، لكن بلا فائدة كأن الناس قد شيعوا الغضب وقبروا الكرامة..
وإذاكانت الخرطوم قد استباحها الجنود الاتراك ، والإنجليز ليوم واحد فقط
فإن ولاية الجزيرة قد ضربت رقماً قياسياً في الإستباحة والإذلال والإهانة مالم يحدث في التأريخ من قوات غازية أو صادة لعدوان ، بينما العالم كله يقف متفرجاً على ما حدث هناك، فضلاً عن (فِرجة) الدولة…هل قلتُ الدولة ؟ اللهم اغفر لي زلة لساني هذه، إذ قلتُ الدولة حيث لم تكن هناك دولة.. اللهم اغفر لي زلة لساني هذه..آمين..
(3)
ماحدث في قرى الجزيرة المسالمة لم يحدث مثله في عمليات اجتياحات بختنصر، ونيرون والتتار، ولا الذل الذي لقيه الهنود الحمر ..
فقد كانت الصورة في الجزيرة مؤلمة حد الوجع الخرافي..قصص وحكايات تستخف بخيالات كُتاب التراجيديا السوداء ، وتتضاءل بجانبها أفلام دغدغة مشاعر الحزن النبيل..لكن يبقى الأمل في الله وحده ناصر المستضعفين الذين مانقموا منهم إلا أنهم مسالمون لايعرفون للقتل والعنف والنهب سبيلا.. ومهما ادلهم ليل الظلم والهوان فإن فجر الخلاص لآتٍ بإذن الله…اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع التي تحبُ أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين..