ما النموذج الملائم لتأسيس الدولة السودانية بعد الحرب؟
تقرير - إسماعيل محمد علي – اندبندنت عربية
الحكومة المنتخبة يقع عليها عبء إصلاح القوات المسلحة والأجهزة شبه العسكرية الأخرى وحل القضية المعقدة للمؤسسات الاقتصادية
شهدت فترة ما بعد الحرب السودانية التي دخلت عامها الثاني بين الجيش و”مليشيا الدعم السريع” نقاشات واسعة سواء في المنتديات المختلفة أو مواقع التواصل الاجتماعي حول “الفشل الذي لازم النخب السياسية والعسكرية التي حكمت السودان منذ الاستقلال عام 1956″، وهو ما أدخل البلاد في دوامة حروب قضت على أحلام السودانيين وعرضتهم لموجة نزوح تعد الأعلى على مستوى العالم.
فما نموذج الحكم المناسب لواقع السودان، الذي يمكن أن يصلح لتأسيس الدولة السودانية الحديثة ما بعد انتهاء الحرب؟
مبادئ صفرية
الباحث في مركز الخرطوم للحوار اللواء الرشيد معتصم مدني قال إن “السودان بلد عظيم من حيث التاريخ والجغرافيا والتفاعل الحضاري والثقافي والبالغ الأثر في محيط واسع المدى، فحال الاشتباك الجارية حالياً في عدد من مناطقه وحوله من الخارج تؤكد هذه الأهمية، كما تشير إلى أن الحراك بداخله متقدم على محيطه الإقليمي العربي والأفريقي باعتبار أن معارك الآخرين مؤجلة عندما ينجح السودان في الإجابة عن الأسئلة المطروحة ويتجاوز محنته الخانقة الآن”.
وأضاف مدني أنه “في تقديري أول وأهم المعالجات التي يحب الاهتمام بها بعد نهاية الحرب، تطوير نظم الإدارة على مستوى الدولة ككل وداخل المؤسسات وتحويلها إلى نظم إدارة حديثة بمعنى الارتقاء بنظام الحكم الاتحادي وتحويله من هياكل سياسية إلى نظام اقتصادي يحقق العدالة ويمنع هدر الموارد ويستوعب الوعي الكبير بالداخل السوداني وحاجات الأجيال الجديدة ورغبتها في المشاركة في البناء والتنمية وإعمار البلاد، ويواكب بالقدر ذاته التحولات الكبيرة والسريعة في العالم الخارجي، فضلاً عن وضع نظم لرقابة أداء المؤسسات غير مرتبط بالأشخاص”.
وزاد أنه “لا بد أيضاً من الخروج بالبلاد من حال الاشتباك والصراع الداخلي إلى المنافسة على الموارد في الفضاء الخارجي وبناء مؤسسات قوية وراسخة تدعم هذا التوجه، إضافة إلى الاستثمار في قضايا التعليم والبحث العلمي وشركات الاتصال وإنشاء توليفة منها ورسم سياسات لتحويلها إلى سلع وخدمات وقياس المخرجات الناتجة منها، إلى جانب إيلاء اهتمام كبير لقضايا الزراعة والطاقة والصحة وتطوير المدن، وقبل كل هذا لا بد من خلق الأرضية المشتركة والفضاء السياسي القائم على المنافسة الحرة المبنية على البرامج وليس العقائد والأيدولوجيات”.
وأردف أنه “من المهم رفع كفاءة مؤسسات الخدمة العامة والمؤسسات العسكرية وشبه العسكرية ذات العلاقة بالمواطن والرعاية الكاملة لقضايا حقوق الإنسان وتجريم العنصرية والقبلية وإبراز المواد القانونية المتعلقة بهذه الجوانب ومعالجة النواقص إن وجِدت، فضلاً عن العمل على بناء علاقات خارجية تقوم على المصالح”.
وختم مدني قائلاً “لا أعتقد بأن هناك أمة ناجحة استبدلت نفسها وتنكرت لماضيها وتاريخها، فالتطور الطبيعي يكون من خلال الإصلاح المتدرج القائم على تجارب الشعوب وإرثها الثقافي عبر الحوار الهادئ مع الاستنساخ والاستفادة من تجارب العالم الخارجي في مجال التنمية والتطور التكنولوجي ونظم الإدارة الحديثة، والسودان بلد قابل للنمو السريع وأضعف حلقاته هي الطبقة السياسية التي تتنافس على السلطة بمبادئ صفرية انتهت بنا إلى الفشل في كل تجاربنا السابقة، فنحتاج إلى أن نأخذ من تجارب دول مثل الهند والصين ودولة مثل الولايات المتحدة بالمقدار الذي يفيدنا ويحافظ على خصوصيتنا وملامحنا كأمة سودانية”.
مصالحة حقيقية
لكن الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي في السودان كمال عمر عبد السلام رأى أن “مشكلة الدولة السودانية ظلت مطروحة للنقاش منذ زمن بعيد، فالتمرد الذي حدث من قبل الجنوبيين في 1955 كان بسبب تأسيس الدولة التي قامت على مركزية شمولية، فقد أخطأ الإنجليز والمسؤولون السودانيون عندما ظنوا أن السودان دولة موحدة، وهو في الحقيقة غير ذلك لأن الدولة الموحدة في النظم السياسية تقوم على شعب واحد يتحدث لغة واحدة ودين واحد، حيث تقع في مساحة صغيرة يسهل حكمها من خلال نظام ملكي أو برلماني، فالإنجليز كانوا يريدون تمكين فئات محددة من المثقفين السودانيين بأن يحكموا السودان بواسطة الأحزاب”.
وتابع “هذه الإشكالية بدأت منذ إطلاق صافرة تأسيس الدولة السودانية، وبصراحة نجد أن البناء الدستوري تم بشكل اختزل قيمة الشعوب السودانية وأقاليمه المتعددة وتباينه الواسع، فقد تم اعتماد النظام المركزي الذي يتحكم بشكل ممعن في الاستبداد تجاه كل الولايات، فشكل الحكم الأنسب للسودان هو النظام الفيدرالي وعدم تطبيقه تسبب في حرب الجنوب في وقت لم يكن الجنوبيون يريدون الانفصال آنذاك.
ومن بعد ذلك بدأت الأزمة الحقيقية بإعداد دستور موقت ثم دستور انتقالي فدستور موقت حتى محاولة نظام الرئيس السابق عمر البشير بإقامة دستور 1998 كانت بلا معنى”.
وأردف عبدالسلام “في رأيي أن دولة 1956 محتاجة لمراجعة سياسية ودستورية، لكن من ينادون الآن بتعديل تلك الدولة (1956) فإن ممارستهم على الأرض المتمثلة في الانتهاكات الجسيمة بحق المواطنين، فضلاً عن نهب منازلهم والتسبب في تهجيرهم تتنافى مع الشعارات الرنانة التي يرفعونها”.
ولفت إلى أن من أولى خطوات تأسيس الدولة السودانية الحديثة عقد مؤتمر دستوري لأهل السودان يتم فيه إعداد مسودة دستور من قبل متخصصين في هذا المجال على أن يجري استفتاء حوله في كل الأقاليم.
وواصل “في تقديري أن النموذج البرلماني الذي طوره البريطانيون وأطلق عليه وستمنستر فشل في السودان، بالتالي نحن أمام خيارين: إما حكم رئاسي محكوم بالدستور ومقيد بشكل أساسي بالرقابة القضائية أو اتباع تجربة الهند البرلمانية التي يتم فيها انتخاب رئيس الوزراء في جلسة مشتركة تضم البرلمان المركزي وكل البرلمانات الولائية من أجل الحصول على إجماع حقيقي يعبر عن الحكم الفيدرالي، وهي أنجح التجارب التي حدثت على أرض الواقع، لكن لا بد أن يسبق هذه الخطوة دستور فيدرالي يؤيد الفيدرالية ويذهب في اتجاه الرقابة القضائية من خلال المحكمة العليا الفيدرالية (محكمة منفصلة تراقب الأداء)، فهذا هو النظام الأجدر”.
وأضاف الأمين السياسي في حزب “المؤتمر الشعبي”: “إن أردنا استقرار السودان ونهاية لحروبه المدمرة التي شردت أهله وأفقرتهم، لا بد أن نتسامى فوق خلافاتنا وأن نبدأ صفحة جديدة والعيش بواقع جديد يحكمه دستور انتقالي، ينبع من مصالحة حقيقية تشمل كل أطياف السياسة والقبائل والأقاليم من دون تفرقة، وتبقى آلية الانتخابات هي آلية الحكم المتفق عليها”.
حوار جامع
في السياق، أوضح الباحث في الشؤون السياسية زين العابدين صالح عبدالرحمن، أن “الإشكالية التي تواجه النخب السياسية السودانية هي تعريف ماهية الدولة التي في مخيلتهم، فكل أحزاب السودان على مختلف مدارسهم الفكرية يرفعون شعار الدولة الديمقراطية، لكن نجد أن أغلب التعريفات تذهب في طرق موازية للآخرين، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاط المصطلحات مع بعضها البعض. وهناك من يعتقد أن الحوار الجامع الذي يفضي إلى توافق وطني أفضل طريق، بينما يرى طرف ثان أن الثورة هي التي تمهد طريق الديمقراطية، وثالث يريد دولة مع عزل الآخرين، كما هناك المكون العسكري الذي يعتقد أن الأفضل وجود فترة انتقالية يحكمها تكنوقراط بإشراف الجيش ثم تعقبها انتخابات عامة”.
وزاد “أن تعدد التصورات ليست مسألة سلبية، لكنها من دون حوار جامع بين الكل يصبح الوصول لتفاهمات مسألة في غاية الصعوبة، لأن الحوار هو الذي يؤسس لأرضية الثقة وقبول الآخر، فضلاً عن أنه يقلل فرص بروز العنف بين المجموعات المختلفة، والإشكالية الأخرى تتعلق بالتيارات الفكرية فكلما كان التيار الفكري أقرب إلى مقولات الثورة والعزل والإقصاء يضيق الماعون الديمقراطي، وكلما كان الفكر أقرب للوسط يفتح فضاءات أوسع للحوار، بالتالي ما دام الكل يتطلع للنظام الديمقراطي فيجب أن تكون فضاءاتهم مفتوحة للحوار وليس عليها قيود. فإذا كان النظام الإسلاموي السابق ضيقاً بسبب التوجه الأيديولوجي واحتكار السلطة، فيجب على الآخرين ألا يتبعوا الطريق ذاته من خلال تبريرات واهية، فالديمقراطية فضاءاتها مفتوحة ومواعينها يجب أن تتسع للكل”.
ورأى عبدالرحمن أن الدولة الديمقراطية هي أنسب النظم لحكم السودان باعتبارها الأقل سوءاً عن بقية النظم السياسية الأخرى، لكنه بين أن الحرب خلقت واقعاً أمنياً في غاية السوء بسبب انتشار السلاح في أيدي العامة والخاصة، مما يتطلب تناغماً حقيقياً بين المدنيين الذين يقع عليهم عبء إدارة الدولة والقوات المسلحة من أجل إعادة الأمن للبلاد والاستقرار السياسي والاجتماعي لخلق بيئة صالحة للحوار الوطني، مشدداً على أنه ليس من الأنسب أن تشارك الأحزاب في الفترة الانتقالية.
وواصل “يجب على حكومة الفترة الانتقالية التي يتم تشكيلها بعد انتهاء الحرب، إنجاز إعادة التعمير بخاصة للمؤسسات الخدماتية، وتحسين معيشة المواطنين، والقيام بإحصاء سكاني وتوزيع الدوائر الانتخابية، ودعوة كل الأحزاب من دون أي إقصاء إلى حوار دستوري بهدف صناعة الدستور، على أن يكون دستور 2005 مسودة للتداول باعتبار أن أغلبية الأحزاب قد شاركت في صناعته وصياغته، إضافة إلى العمل على تحسين العلاقات مع العالم الخارجي من خلال قيام ورش تشارك فيها كل القوى السياسية وتحديد موعد الانتخابات العامة، لكن من الأفضل أن تجري انتخابات لمجالس الأحياء والنقابات والاتحادات بمشاركة قطاع واسع من الجماهير في العملية الديمقراطية من أجل اختيار ممثليهم، وهي العملية التي تنتج الثقافة الديمقراطية وتعزز قيمها”.
ونوه إلى ضرورة اتفاق القوى السياسية على ميثاق شرف يهدف إلى خلق السلام الاجتماعي لنشر ثقافة السلام وسط المواطنين، والعمل على تحقيق العدالة الانتقالية وإرجاع الناس إلى مناطقهم ومنازلهم، ودعم الدولة للمصالحات الاجتماعية في مناطق السودان المختلفة. فالحكومة المنتخبة يقع عليها عبء إصلاح القوات المسلحة والأجهزة شبه العسكرية الأخرى، وحل القضية المعقدة للمؤسسات الاقتصادية التي تديرها القوات المسلحة والعمل على إدخالها في الدورة المالية للدولة. ولفت إلى أنه إذا اتفقت القوى السياسية على “النظام الرئاسي” فلا بد من إجراء الانتخابات الرئاسية ثم يدعو الرئيس المنتخب إلى الانتخابات البرلمانية.
وأكد الباحث في الشؤون السياسية أن الديمقراطية تؤسس على الحوار بين القوى السياسية من دون وضع أي شروط مسبقة، أو محاولة إلى إرجاع مصطلح “عدم الإغراق السياسي”، فالكل يجب أن يشارك في الحوار لكي يتحمل مسؤولية الدفاع عن النظام السياسي الذي سوف يتمخض عنه.