نبض للوطن- أحمد يوسف التاي- حكايات لتوثيق الفساد وفهم الراهن (1)
(1)
أميل إلى ربط سقوط نظام البشير ،بظاهرة الفساد الذي استشرى في أجهزة الدولة بصورة مذهلة تحدث بها الركبان، حتى أصبح العنوان الأبرز في صفحاته السوداء..
وأميل أيضاً إلى ربط انقلاب 25 أكتوبر بملف الفساد نفسه، لا لشيء إلا لكون الانقلاب شكل طوق نجاة لكثير من المتهمين بالتورط في ملفات فساد كبيرة، حيث (فكّ) الانقلاب قبضة لجنة التفكيك، ليخرج منها المتهمون ويضع مكانهم (ناس التفكيك)، فاستعادوا ممتلكاتهم، ونقلوا أموالهم المجمدة إلى خارج البلاد، واستعاد مفصولون مواقعهم، ولولا انقلاب أكتوبر لما حدث ذلك، أقول ذلك مع التحفظ على أخطأ ارتكبتها اللجنة..
وما جرى لبلادنا في 15 أبريل لم أجد صعوبة في الربط بينه وملف فساد النظام المخلوع وتجاوزاته، فإذا كان الانقلاب قد ارخى القبضة عن متورطين، فإن حرب الخرطوم قد مضت في ذات الاتجاه، مع التأكيد على أسباب أخرى سلطوية غير الإفلات من العقوبة.
فكلمة السر، وشفرة الأحداث الحالية والوجه الخفي في سقوط الإنقاذ، والإنقلاب وحرب الخرطوم هو ملفات الفساد التي لايراد لها الإنكشاف والمحاسبة..
وللحديث عن هذا الملف الخطير، والربط بينه ومجريات الأحداث الحالية يجدر بي تناول كل ما أعرف عن أوجه الفساد التي عايشتها وكنتُ شاهداً عليها من أجل التوثيق والتأريخ ، ومن أجل تعزيز فرضية الربط التي زعمتُها في استهلالية هذه السلسلة..
(2)
في خواتيم 2013 طلب مني المرحوم الطيب مصطفى (تغمده الله بواسع رحمته) مقابلته، ولم يكن لدي سابق معرفة به إلا أنني كنت أعرفه كشخصية عامة وكاتب صحافي، ويعرفني كذلك، ولم نلتقِ إلا مرة او مرتين، لكن بعد مقال كتبته تعاطفاً معه عندما تم إبعاده من الانتباهة بإيعاذ من شخصية رفيعة بالمؤتمر الوطني لأن الطيب مصطفى خرج مع المتظاهرين ضد النظام في هبة سبتمبر 2013، وُمنع عن الكتابة في الصحيفة التي هو رئيس مجلس إدارتها ،وطُرد منها تماما حتى من دخولها..بعد اسبوعين من نشر المقال هاتفني شاكراً إياي على المقال الذي اعتبره الرجل منصفاً وشجاعاً، وقد سألني عمّا إذا كان خصومه مُلاك الانتباهة التي اعملُ فيها قد فصلوني بعد المقال أم لا، ومن هنا نشأت علاقة حميمة بيننا، وسبق أن دعاني للإنضمام لحزبه فاعتذرتُ بلطف لكوني على مبدأ راسخ وقناعة تامة بعدم الإنتماء لأي حزب ما دمتُ أمارس مهنة الصحافة التي تتطلب قدراً من الحرية على نحو لاتنتقص منه أي قيود تنظيمية، وقد جرى اختلاف وسجالات بيني وبينه،من جهة وبينه والاستاذ محمد عبد الماجد من جهة وثقت بعض هذه السجالات صفحات صحيفته مما يؤكد إيمانه بمبدأ حرية الرأي والرأي الآخر ، لذلك ظل الاحترام باقيا بيننا…
المهم عندما تم اللقاء طلب مني المرحوم الطيب مصطفى المشورة في إنشاء صحيفة، فنصحتُه أن إذا أراد صحيفة ناجحة ومتميزة عن بقية الصحف، فليؤسس صحيفة تقوم سياسة تحريرها على ثلاث محاور:( محاربة الفساد، الدفاع عن الحريات، وتعزيز عوامل الوحدة الوطنية)، وقد أقرّ ذلك بل أعجبته فكرة سياسة التحرير التي تقوم على تلك المحاور الثلاثة، وبعد عدة اجتماعات ، أوكل لي مهمة اختيار الصحافيين، وتحديد سياسة التحرير والحمد لله وفقنا في ذلك كثيراً، وخلال شهرين فقط كادت (الصيحة) أن نتخطى الإنتباهة ، ولكن مافيا الفساد عمدت إلى ذبحها.
(3)
بعد شهرين تربعت الصحيفة عرش الصدارة مع الانتباهة، وكانت كابوساً مزعجاً لمافيا الفساد، وكثرت الشكوى منها، وفي نفس الوقت كانت ملاذاً للمظلومين والمقهورين، والأكثر إثارة للجدل ، فلجأ جهاز الأمن إلى إيقافها بعد شهرين فقط من الصدور..
ولم تكتف السلطات الأمنية بإغلاق الصحيفة وتعليق صدورها ،بل فتحت بلاغات في نيابة أمن الدولة في مواجهة كل الصحافيين العاملين بها، ابتداءً من رئيس التحرير الرجل الخلوق د. ياسر محجوب، وانتهاءً بأصغر محرر، وطبقاً للتضييق من سلطات الإنقاذ غادر رئيس التحرير السودان إلى لندن، وطلب حق اللجوء السياسي واستقر هناك..
وكانت من بين مواد تلك البلاغات المفتوحة في نيابة أمن الدولة عقوبتها الإعدام وبعضها السجن لفترات طويلة. بعد إغلاق الصحيفة جاءت إلى مكاتبنا قوة وانتزعت من بين أيدينا كل المستندات والوثائق التي بحوزتنا، وهي مستندات وملفات خطيرة توثق لفساد النظام المخلوع وبعض المسؤولين بالدولة وشخصيات منتمية للنظام ، وقد كان أغلب تلك الملفات تتحدث عن فساد يشيب له الولدان في قطاع الأراضي، والأوقاف الإسلامية، والمصارف وعدد من المؤسسات، والشركات الحكومية، والأفراد، وكذلك فساد مشروع توطين العلاج بالداخل، وملف القمح والدقيق.
(4)
في هذا الجو المشحون، والبلاغات المكدسة في نيابة امن الدولة التي دونت البلاغات بأثر رجعي ابتداء من أول عدد صدرت فيه الصحيفة إلى آخر عدد في يوم المصادرة، اي أن البلاغات تم فتحها بعد مرور شهرين، ولكم ان تتخيلوا عدد البلاغات ل (60) عدد..!!، وهي كمية مهولة من البلاغات ومواد عقوبتها الإعدام ، في هذا الجو المشحون بالهواجس ترك لي رئيس التحرير حملا ثقيلاً وغادر إلى لندن.. نواصل…
اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.