سهير عبدالرحيم تغرد

*سهير عبدالرحيم تغرد: انكسر المِــرِق*

*بسم الله الرحمن الرحيم*

        *سهير عبدالرحيم*

*[email protected]*

            *انكسر المِــرِق*

كنت أراقب دوماً حماس وحيوية أمي، حين يزورنا الضيوف في بيتنا، كانت تسعد أمي بإكرامهم والاحتفاء بهم أيّما كان مقدمهم ومشاربهم ووجهتهم.

وكان حماسها ذاك يزداد، وسعادتها تتّسع حين يزورنا أهلنا من قرية أم مغد بولاية الجزيرة.. أمّا حين يكون الزائر واحِــداً من خيلاني الاثنين محمد أو أزهري، فقد كانت تهرول في الاحتفاء بهما حدّ أنّـها حافية القدمين!

فكبرنا وتعلّمنا معنى الأهل، وعزوة القبيلة، وقيمة العائلة، وقداسة الإخوة، كُنت أشارك في ذلك الاحتفاء معها، فأتسابق إلى خيلاني، أحضنهم عميقاً وأوسعهم سيلاً من القُبلات على رأسهم وجبينهم وخدودهم.. أشعر بحنوهم وسموقهم ودفء لا يشوبُهُ بردٌ، وحِنِيّة لا يكدرها زمانٌ، وطمأنينة لا تكذبها ظنونٌ.

كان خالي محمد والذي تجاوز عمره المائة عام منذ سنوات طويلة، حين يكرمنا بزيارة في بيتنا ويحلف أبي عليه للمبيت، كنت أعلم أنّ صباح الغد سيكون صاخباً بالحُب والضحكات الوسيمة، والونسة الطاعمة، والذكريات والأحاجي الذكية.

كان يستيقظ خالي وينتصف السرير والمجلس والأقاصي، في ذاك الوقت تكون أمي قد أعدّت صينية الشاي مع الزلابية (شاي أحمر وشاي باللبن) وجك من العصير وآخر من المياه الباردة، وتكون في ذات الوقت قد أكملت قلي البُن لتعد القهوة فور انتهائهم من الشاي، وفي ذات الوقت تكون قد جهّزت كل ما يلزم، للإفطار.

كنت أقول في نفسي دائماً، إنّ المعدة في هذا الوقت من الصباح تستقبل شيئاً واحداً، إمّا شاي لبن أو شاي سادة أو قهوة، ولكنها أمي، التي تشعر دوماً أن عليك إفراغ الثلاجة وكل ما في المطبخ أمام الضيوف، فما بالك إن كان هذا الزائر خالي محمد؟!

كنت انسرب إلى ذاك المجلس بعفوية عشقي إلى ملازمة أبي والاستماع إليه، والتمعُّن في خطوط الزمن على تقاسيم وجه خالي، فتسرّني ابتسامته المُكتملة التي تنزاح عن أسنان بيضاء مُتراصّـة لم تنقص بفعل فاعل، وعيون تُومض مع الحديث الذي يشمله خالي بكل أنواع الجِناس والبديع والطباق.

ولا أدري لماذا لم يُفكِّر ابن خالي البروفيسور عبد المتعال حين زاره خالي بعاصمة الضباب لندن، لماذا لم يعرض خالي على خُبراء الذكاء والجِينات.. إنّي على يقين أنّـه كان سيحصل على علامات مُرتفعة تُضاهي اينشتاين وفحص جِيني يخبرنا كيف أنّ لون عينيه يختلط بزرقة نادرة.

كنت أشعر بتوأمة بين أبي وخالي، تتحوّل إلى عصف ذهني لقضايا الوطن، كيف لا وهما الاثنان من مؤسسي وداعمي وركائز الحزب الاتحادي الديمقراطي، وإن انشق أبي بحزبهم الوطني الاتحادي، إلّا أنّ نقاشهما كان دوماً عميقاً ومُفيداً دون أذى وتطاول وجهل كما يحدث في سودان اليوم، نقاش ديمقراطي معافى ليس فيه قمعٌ ولا كبتٌ ولا مزاجية، كنت أسمعهما يُردِّدان أسماءً عظيمةً كان لها أثرها في بناء السودان.. أين جيل خالي مما يحدث الآن؟!

كان خالي مثل أبي، يعشق السياسة والتاريخ والقانون، فلا يستطيع أي من دهاقنة خريجي كليات العلوم السياسية أن يجاريه في طرح أو رؤية، وكانت تشتد حِيرتي في حفظه عن ظهر قلب، لقوانين الأراضي والعقار والحسابات المُعقّدة، ولأنّه من ضمن الورّاث الوحيدين لتركة العُمدة أحمد البخيت، فقد شهدت له المحاكم صولات وجولات مع آخرين، قام فيها بفذلكة القانون بِدِربة ودِراية وتمحيص وتفسير، جعلت عُموم قضاة تلك المحاكم يسقط في يدهم.

وعلى ذكر البخيت جدنا، هو الرجل الذي كُتبت فيه القصيدة التي يتغنّى بها الفنانون اليوم:

فارس الحديد

ما حرسو الجري

وصدرك موشح بالدمي

ما بخاف فارس الحديد الحمي

يا فــارس الألوف الإت كفيتن

وكبست الدروع وشلعت خـــوداتن

فارسنــا البخيت التم شكراتن

وصديت الخيول وقمحت ركباتن

ما بخاف فارس الحديد الحمي

من قومة الجهل الخوف ولا قسمو

ومتبون في المحاص وفي الدود كتر عشمو

بدخل فوق بكاناً النحاس خلف شتمو

وركز البخيت الفال والنصــر ختمــو

من قومة الجهل الخوف ولا كارو

والهوى والشرق اتصنعو أفعـــــالو

العوق أب صفوف قالوا البخيت شالوا

مضروب في الوجن

ولا جاني بي شمالوا

القصيدة طولية عرضت جُزءاً منها لأوضِّح أنّ جينات البسالة والإقدام، وخوض غِمار المعارك هي بالفطرة، لذلك كان الخال كما يُقال “هذا الشبل من ذاك الأسد”.

أعود لخالي، فالرجل يحفظ كل شبر وكل خط عرض وطول وكل ساقية وحواشة، وبعكازته يرسم لك على الأرض أيِّ انحناءة وتعرج وإبطاء وفتور وسرعة وهيجان وثورة للنيل.

يتحدّث عن الزراعة مع أمي، فتجزم بأنّ البذرة تناجيه والثمر يسامره والأشجار تصطفيه والتربة تخبره الأسرار، فيتحدّث كما الفلكي الذي يجيد معرفة أوان الزراعة والحصاد وقراءة شفاة النجوم.

إنّه موسوعة في القانون والسياسة وفلاحة الأرض، كيف لم يستعن بك يا خالي الخبير الدولي، الدكتور معاذ تنقو في رسم حدود السودان التي قضمتها مصر وإثيوبيا وابتلعها الجنوب؟!

خالي محمد والذي تزوّج بسيدتين كريمتين لهما الرحمة والمغفرة، أكرمه الله بعددٍ من خِيرة الأبناء والبنات والأحفاد وأحفاد الأبناء، فرفد البلاد بالبروفيسور العالم والنطاس البارع والطبيب الحاذق والمهندس الجيولوجي والكيميائي ومهندس الماكينات وخبير النفط والأديب والتاجر والصيدلاني والمعلم، وأقلهم تعليماً كان يمشي بين الناس بالحُسنى وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاماً.

انفردت إحدى بناته بكتابة مُعلّقات وقصائد في الفخر والمدح والشعر الجزيل المصقول بعناية يُضاهي الفرزدق وجرير والعتاهية، فكانت تمزج مفرداتها بمُصطلحات عسيرة الفهم في الطب والفيزياء، كيف لا وهي ابنة محمد.

الآن وقبل خمسة أيّامٍ، حمل الناعي لنا وفاة خالي محمد بالأراضي المقدسة بالمملكة العربية السعودية، فكان الألم بحجم أمة والوجع مقدار وطن.

خَــارج السُّـــور:

قرائي الأعزاء، رجاءً شاركوني الدعاء لخالي.. اللهم أرحم خالي رحمةً واسعةً تسعها قدرتك وصحفك ورضوانك، واجعل قبره روضةً من رياض الجنة.

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

*(إنا لله وإنا إليه راجعون)*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى