أخبار

سيناريوهات اشتباكات السودان.. هل تسير على خطى ليبيا واليمن؟

انزلق السودان إلى حرب بين أطراف السلطة المتصارعة خلال الأيام الماضية، بعدما كان على بُعد خطوات قليلة (نظريا) من استعادة الحكم المدني عبر ما اتفق عليه الفرقاء من تشكيل حكومة انتقالية في يوليو/تموز القادم، طبقا لمخرجات الاتفاق الإطاري المُوقَّع في ديسمبر/كانون الأول العام الماضي. وقد نصَّ الاتفاق على توحيد المؤسسة العسكرية، وتشكيل حكومة مدنية لحين إجراء الانتخابات. لكن مسألة دمج قوات الدعم السريع في الجيش سرعان ما أشعلت الخلافات، وهي خلافات ترتبط بنظرة الجيش إلى قوات الدعم السريع ونفوذها المتزايد بشكل عام، كما ترتبط بالمنافسة الشخصية بين قائد الجيش الفريق “عبد الفتاح البرهان”، وقائد الدعم السريع “محمد حمدان دَقَلو” (حميدتي) في حقبة ما بعد البشير.

تدور المواجهات المسلحة بين الجيش والدعم السريع في عدة مدن سودانية، وهو فصل آخر من فصول تعثُّر الثورة السودانية التي اندلعت قبل أربع سنوات. منذ الأشهر الأولى للثورة، حاول العسكريون مرارا منع تسليم السلطة إلى المدنيين، ثم شاركوا في محاولة انقلاب على حكومة حمدوك، وأخيرا تقاتلوا على السلطة، ودخلوا في صراع يُنذر بسيناريوهات سوداوية مشابهة لما جرى في اليمن وليبيا.

سيناريو انتصار الجيش
تنحصر الاشتباكات في المرحلة الأولى من تلك المواجهات في المدن ذات الأهمية الإستراتيجية، وقد بدأت في مدينة “مروي” شمال الخرطوم، وتكمن أهميتها في احتوائها على قاعدة جوية مهمة للجيش السوداني. ومن ثمَّ فإن تحييدها كان مهما كي يشن الدعم السريع بعدها عملية عسكرية في العاصمة الخرطوم استهدفت مدينة أم درمان (تقع ضمن ولاية الخرطوم) التي تحتوي على مقر الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ثم بعدها التوجه إلى المربع الذهبي في قلب العاصمة الذي يضم المطار ومقر قيادة الجيش والقصر الجمهوري. وبينما صدرت تصريحات متناقضة من الطرفين، لا تبدو حقيقة أوضح من أن الحرب حتى اللحظة تزداد حِدّة في ظل رغبة الطرفين في الحَسم.

إن تعداد قوات الدعم السريع يكافئ تقريبا تعداد القوات البرية للجيش السوداني، بعد أن وصلت إلى مئة ألف مقاتل، وهو دور قديم رسمه لها البشير منذ منحها صفة المؤسسة الأمنية/العسكرية الرسمية عام 2013، وكانت تُعرف قبل ذلك بـ”ميليشيا الجنجويد”. وقد تلخَّصت مهام تلك القوات في حماية الرئيس نفسه وتأمينه من محاولة الجيش الإطاحة به، وكذلك من أي انتفاضات شعبية. وعلى رأس هؤلاء الذين شكَّك البشير في ثقتهم ضباط الصف الأول وجهاز المخابرات الذي رأسه “صلاح قوش”. وقد قدمت ميليشيا الجنجويد أو الدعم السريع لنظام البشير ما لم يقدمه الجيش، حيث خاضت معارك النظام الأهلية في الأجزاء القاحلة من إقليم دارفور، وقلبت مجرى الحرب لصالح البشير الذي تمسَّك ببقائها لاحقا، وذلك رغم ارتكابها واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، وتسببها في مقتل الآلاف وتشريد نحو مليون شخص.

بمرور الوقت، ضعفت قبضة البشير على السلطة، وعلى قوات الدعم السريع نفسها، التي نما نفوذها وأصبحت تُجري صفقات تسليح منفردة. كما امتلكت ميزانية خاصة بها، وتمتع رجالها بالثراء الفاحش نتيجة بيع الذهب. وبعد الدور الذي لعبته في حرب اليمن، تمتعت قوات الدعم السريع بالحق في التدخل الفوري والتعامل مع أي تهديد يستهدف البلاد بعد مرسوم رئاسي، ما جعلها تنتشر في المدن السودانية كافة بموجب ذلك التفويض.

مثلث تلك الأدوار والصلاحيات عائقا أمام الجيش عقب اندلاع الثورة السودانية، خاصة بعد عزله البشير. وقد سبق حميدتي الجيش بخطوة حينئذ، وأعلن الانحياز للشارع، ثم وصل إلى منصب نائب رئيس المجلس العسكري، وحصَّن منصبه طيلة الفترة الانتقالية من العزل أو المحاكمة، وهو ما يظهر في مخرجات الوثيقة الدستورية الموقعة أواخر عام 2019. لقد ظهر جليا للجيش أن قوات الدعم السريع ستُشكِّل عقبة في طريق احتكاره للسلطة بوصفه الجيش النظامي التقليدي للبلاد، ومن ثمَّ اشترط البُرهان دمج الدعم السريع داخل الجيش طبقا للاتفاق الإطاري الأخير.

اشترط البُرهان دمج الدعم السريع داخل الجيش طبقا للاتفاق الإطاري الأخير، قرأ حميدتي المشهد واختار مواجهة الجيش عسكريا قبل تنفيذ الدمج. (الأناضول)
نتيجة لكل تلك الاعتبارات، قرأ حميدتي المشهد واختار مواجهة الجيش قبل تنفيذ الدمج، مقررا الاحتفاظ بسطوته عبر خوض صراع عسكري يُراهن فيه على قواته. ولكن في حال خسر رهانه، فسيصبح حميدتي خارج المشهد، وسوف يتم تفكيك إمبراطورية الدعم السريع السياسية والاقتصادية. والأهم من ذلك، ستخلو الساحة السياسية للمؤسسة العسكرية من أي منافسة أو تهديد سوى تقاسم السلطة مع المدنيين، ومن المرجح أن يواصل الجيش حينها سياسة المماطلة، لا سيَّما أنه وضع شروطا لتسليم السلطة، وأعلن أنه لن يمضي في الاتفاق الإطاري من دون توافق سياسي، وأن القوى الموقعة ليست كافية لحل الأزمة السياسية بالبلاد.

سيناريو فشل الجيش في هزيمة حميدتي
على الجانب المقابل، تعني نجاة حميدتي وقوات الدعم السريع من الصراع الحالي أن حظوظهما سترتفع في الاحتفاظ بالمكانة ذاتها بعد انتقال السلطة، وربما يكون حميدتي يتطلع بالفعل إلى الترشح إلى الانتخابات، حيث لا توجد معضلات دستورية تمنع أعضاء المجلس الانتقالي من الترشح. وتنعكس تلك الحسابات على طبيعة المعارك التي تدور رحاها في البلاد، وتشتد في العاصمة الخرطوم. هذا وتتخذ المواجهات أسلوب حرب الشوارع التي تمرَّس فيها الدعم السريع، وذلك بهدف إطالة أمد القتال، وتحييد تفوق الجيش.

حتى اللحظة لا تزال الأمور مرتبكة على الأرض وإن كانت المؤشرات تتراكم حول تفوق الجيش، وتزداد الأمور تعقيدا بمنع وصول الصحافيين، وإصدار بيانات متضاربة من الطرفين. ومع دخول سلاح الطيران للجيش السوداني محاور القتال، ازداد القتال عنفا، وخصوصا أن الدعم السريع يمتلك عتادا يتشكَّل بالأساس من سيارات الدفع الرباعي التي تحمل أسلحة منها مضادات طائرات، ويُقدر عدد هذه السيارات بنحو 10 آلاف، ويعطي هذا السلاح الخفيف قوات الدعم السريع مرونة في الحركة داخل المدن، لكنه ليس كافيا لتحقيق تفوق عسكري.

في غياب أي مؤشرات على إبرام هدنة، يبدو أن كلا الطرفين عازم على تحقيق مكسب ميداني على الأرض بهدف الحسم. وتستند خطة الدعم السريع إلى محاصرة الأهداف الإستراتيجية وتحييدها، مع انتشار قواته بأسلحتها الخفيفة، والسيطرة السريعة على المدن. أما الجيش فإن خطته تعتمد على محاصرة تلك القوات من الخارج، وتجنُّب الدخول معها في معارك استنزاف. وبموجب اعتبارها حركة متمردة -وفق القرار الصادر مؤخرا- ستقطع وزارة المالية الرواتب عن الدعم السريع، لكن ذلك لن يمنع حميدتي من الإنفاق على قواته بما يمتلكه من ميزانية خاصة من مناجم الذهب، ما يعني أن الأمور لا تزال بعيدة عن الحسم.

سيناريو استمرار الحرب

رغم التحركات العربية والدولية الجارية، لا يبدو أن هناك جهة قادرة حتى اللحظة على تغيير مسار الأحداث وإنهاء الاشتباكات المتصاعدة، وربما يرجع ذلك إلى كون الأطراف الفاعلة في الملف السوداني ليست على قلب رجل واحد فيما يخص مسار العملية الانتقالية نفسها.

وفيما يظهر من المشهد، لدى كل طرف (سواء الجيش أو قوات الدعم السريع) تحالفاته الإقليمية والخارجية منذ تأسيس المجلس العسكري الانتقالي. وقد انتقد الجيش نفسه في وقت سابق مجموعة القوى السياسية الموقعة على مسودة الدستور واتهمها بالعمالة، لأنها كانت تستعين بالسفارات وتلجأ لأخذ المشورة السياسية منها. وفي أثناء الاشتباكات الأخيرة، أعلنت قوات الدعم السريع تعرُّضها لهجوم من طيران أجنبي في مدينة بورتسودان شرق البلاد، في حين تحدث الجيش عن تورط “أطراف إقليمية” بالمعارك.

على رأس الدول المعنية بالتطورات في الملف السوداني هي مصر، التي يبدو أنها تميل بوضوح إلى الجيش وتشعر بالتوجس تجاه الدعم السريع وقائدة حميدتي. جدير الذكر أنه قبل يوم من الانقلاب على حكومة حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن البرهان زار مصر سِرًّا عشية استيلائه على السلطة، وذلك في أعقاب لقاء بين المبعوث الأميركي لأفريقيا “جيفري فِلتمان” ومدير المخابرات المصرية اللواء “عباس كامل”. وقد أُبلِغ البرهان حينها -كما تقول المصادر- أن حمدوك يجب أن يرحل بسبب استياء المصريين من الأخير بسبب انحيازه لإثيوبيا في قضية سد النهضة.

بعيدا عن القاهرة التي يبدو أن علاقاتها متوترة بقوات الدعم السريع، وهو ما يظهر في أسر كتيبة من القوات المصرية في قاعدة مروي العسكرية، يبدو أن روسيا تميل نحو حميدتي الذي تجمعها معه علاقات عن طريق جماعة فاغنر شبه العسكرية. وقد قالت صحيفة التايمز البريطانية إن فاغنر قد تلعب دورا في معارك السودان لصالح حميدتي، الذي يوفر الحماية لشركة “ميروي” للذهب، وهي إحدى شركات التعدين التابعة لفاغنر، والمتهمة بتهريب الذهب من السودان إلى موسكو للمساهمة في دعم حرب روسيا على أوكرانيا. وفي المقابل، أشارت الصحيفة نقلا عن مسؤولين أميركيين إلى أن تلك الشكوك دفعت واشنطن لإعطاء الضوء الأخضر لمصر كي تدعم البرهان.

تشير التكهنات أيضا أن الولايات المتحدة ربما منحت الضوء الأخضر للجيش السوداني لتقويض قوة الدعم السريع بسبب علاقتها مع روسيا، أو أنها لا تمانع في ذلك في أدنى تقدير، أما دول الخليج العربية فيبدو أن موقفها من الصراع إجمالا لا يزال منصبا على دعوات الدبلوماسية وإنهاء الحرب. ورغم ذلك، تشي كل المؤشرات أن الحرب ماضية في طريقها دون أن تعرقلها هدنة أو اتفاق يُنهي الأزمة في المستقبل القريب.

وبعيدا عن ساحة المعارك، تبرز القوى السياسية المدنية بوصفها عاملا من عوامل إطالة تلك الحرب، أو أحد مسبباتها بعيدا عن التنافس التقليدي بين الجيش والدعم السريع، وبين حميدتي والبرهان نفسيهما. فكلا الرجلين يمتلك في الداخل قوى مدنية تدعم تحركاته، وتبارك خطواته فيما يتعلق بالعملية السياسية نفسها، سواء القوى المتضررة من إطالة الفترة الانتقالية، أو تلك التي من مصلحتها تعقد المشهد على أمل أن تجري مياه جديدة تعيدها إلى الصورة. يُضاف إلى ذلك أن انقسام القوى المدنية والنخب السياسية حول قتال العسكريين يُدخِل البلاد في نفق مظلم سياسيا على غرار ما حدث في ليبيا، كما أن وجود قوتين متكافئتين يُسلط الضوء على سيناريو اليمن ذاته بامتلاك الحوثيين ترسانة عسكرية قاتلوا بها الجيش النظامي، وسيطروا فعليا على جزء من البلاد، ما أدى إلى انقسامها.

في النهاية، تُهدِّد إطالة أمد القتال بانضمام المدنيين إلى المعارك، وتُمهِّد لظهور جماعات مُسلحة تتقاتل على كعكة السودان وتزيد من رُقعة القتال والفئات الاجتماعية المرتبطة بهذا الطرف أو ذاك. وفي حال فشل التفاوض وتأخر الحسم العسكري لصالح أحد الأطراف، فإن احتمالات تحوُّل المعركة إلى حرب بالوكالة مع دخول أطراف إقليمية أو دولية يزداد، ما يعني ساعتها دخول البلدان إلى نفق مظلم لسنوات قادمة.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى