عادل عسوم | غني معاي ياطير الجني
كم في هذه القصيدة من جمال، جمال له وصل بجمال شمالنا الذي اعتمر الناس فيه قيما تبلورت خلال قرون، الناس في أرجاء هذا الوطن العزيز ان تقاسم بعضهم اللين، وغلبت القسوة على آخرين؛ فإن الذين طالتهم الأولى لتنأى عنهم الثانية، لكن أهلنا في الشمال تتكامل فيهم الصفتان في تلاقح عجيب!، تجد الآباء فينا يقسون علينا في ثنايا تربيتهم، فلا تكاد ترى في الأب إلا صورة الحجاج بن يوسف، ولكن عندما يأتي المساء بصوت طار لمديح أو رنة لطنبور؛ تجد الأنسنة تندلق من ذات الأب حنا، انه ذات الأب الذين غنت له مهيرة في كورتي، وهو من ذات الذين غنوا لأنفسهم (مبسوطين برانا ونحنا مانا سكارا)!.
لأن ابدع خالد شقوري في قصيدة أم الحسن بحسبانها إحدى عرائس القصائد الواصفة لحميمية الحياة في شمالنا الجميل؛ فإن هذه ال(قصيدة الأغنية) لاحدى نفائس اغنيات الطنبور، انها بجانب اصطفافها مع أغنية ام الحسن وصفا لمظاهر الحياة في شمالنا؛ فإنها تغوص في اقبية وجدانهم لتخرج للناس الكثيف من المشاعر والأحاسيس النبيلة، التحية لشاعرها خالد شقوي الذي اشاركه شينات ثلاث، شين الشمال حيث الأصل والجذور، وشين الشرق حيث ننتمي سويا لكسلا الوريفة، والشين الثالثة مردها أهلنا الذين اثقلت الحنية عطاف لهجتهم فأصبحوا يميلون.
خالد شقوري من مجددي شعر اللهجة الشايقية الذي انتظم منحنى النيل وكل أرجاء الشمال ليسهم فيه كل أهلنا هناك، ولان سبقه في ذلك عدد من شعرائنا الأفذاذ منهم من ارتقى إلى الله ومنهم من ظل فينا؛ إلا إن لشقوري بصمته الخاصة وكاريزماه التي لاتخطئها عين، بكون شعره (قيمي) يتحرى فيه الجوامع والمقاصد، ولعلي به في ذلك يقول للناس بأن الصلاة والنسك والمحيا والممات كل ذلك لله رب العالمين، يجعل من ذلك عواصما وقواسما في عوالم شعره الجميل، شعر شواهد وحيه هذا الشمال الحبيب الذي حباه الله ماء وخضرة ووجوها حسنة، فانداحت اليه الأطيار بمختلف انواعها، ولعل جيلنا يتذكر نشيد (نحن الطيور أيها الإنسان):
نحنُ الطيورُ أيُّها الإنسانُ
بذا الجمالِ خَصَّنا الرحمنُ
سبحانه جمَّلنا فلا عجبْ
أن حبَّنا أهلُ العقولِ والأدبْ
أنواعُنا كثيرةٌ مختلفة
وهْيَ على كثرتِها مُؤتلفة.
وقد غنى أهلنا وكتب الشعراء في العديد منها، منها القمري، ومنها الدباس والبلوم، ومنها الحمام، ومنها القيردون أو القينقرد فقالوا:
القينقرد يا الحاجي
ام قيردون يا الحاجي
الكلو صباح داجي.
ولعل الاغنية تنتشر في بقاع أخرى من السودان، ولكن دون امالة.
ولأن اقتصرت أشعار الشعراء على طيور بعينها؛ فإن جميلنا شقوري تميز باختياره لطير الجنة، وهو طائر لاتكاد تجد ذكره في أشعار الغير.
وطيور الجنة تسمى بالإنجليزيّة Bird-of-paradise، وتنتمي إلى فصيلة الفردوسيات التي تضمّ 40 نوعاً من الطيور المشهورة بريش الذكور الغريب، وتعيش غالبية طيور الجنة في جزيرة غينيا الجديدة والجزر التابعة لها، ومنها انواع في أستراليا، كما يُمكن العثور عليها في الغابات الاستوائية عند مستوى سطح البحر، أو في الغابات الجبلية التي يصل ارتفاعها إلى 3.5 كم، ويعيش القليل منها في مناطق السافنا المفتوحة. كما يمكن العثور عليها في الحدائق الغنية بالأشجار، ومن المعروف عنها أنّها تُفضّل العيش في مناطق الظل التي تتشكّل من رؤوس الأشجار، إلّا أنّها قد تنزل أحياناً إلى الأرض للحصول على الغذاء.
ومن أنواع طيور الجنة:
طائر الجنة ذو الريشتين الطويلتين في الذيل.
نوع (باراديسيا رودولفي) الأزرق اللون.
نوع المغرد الصغير.
نوع (راجيانا) أو (راجي).
وطائر الجنة الصغير (مينور).
وطائر الجنة الغرابي الشكل.
ونوع (أسترابيا استفانيا).
نوع (لوفورينا سوبربا) وله كولة تحت الرقبة.
نوع (باروتيا سيفيلاتا) أو الشعاعي.
نوع (بتيريدوفورا ألبرتي) ذو الرموش الطويلة.
نوع (مانوكوديا).
نوع (باراديسيا روبرا).
وطائر الجنة نوع (الملكي).
والأخير هو الذي يوجد عندنا في الشمال، وهو صغير الحجم، ممتليء، ويتميز الذكر منه بلونين أو أكثر، ويغلب عليه اللون الأحمر او العنابي او البرتقالي مع لون آخر أو أكثر.
هذا النوع من طير الجنة يكاد المرء يحسبه من الطيور الأليفة لاعتياده العيش بين الناس، تراه دوما من الطوافين في البيوت، تجده حول حواف الآبار حيث (كانت) الفتيات والنساء ينشلن الماء لملئ الأزيار وسقي البهايم، ولاينفك تابعا فتياتنا يحملن الماء على الرأس ليقر مزقزقا بجانب نقاع الزير:
غنى معاي ياطير الجني
منو الغيرك علمني اغني
لما تشيل اشواقي تطير
وتمشي تقيّل جنب البير
وترجع تنقد باقي فطير
وتشرب من نقاع الزير
ساعة الدنيا سموم هجير
تزقزق فوقنا تفج الصني.
يا لل(صنة) عندما يتحامل الصيف على أهلنا مستقويا بأشعة شمس النهار، فتتلقاها الجباه الشم التي تنضح بعرق العافية، ودونها (كجمة عين) تسبح الله، كم ابدع شقوري وهو يعبر عن كل ذلك بزقزقة طير الجني التي تفج الصني!
ما أبدعك ياصديقي…
ويسوقنا شقوري في عوالم قرانا وأريافنا الجميلة فيقول:
سماحتك وكت الدنيا تروق
وكل الناس مندلي تسوق
او ماشين شايلين السوق
وانت براك ساويلك سوق
جنب الحاجي المابي مروق
وفى الشوال عاطني الحنقوق
وداك اليوم ياطير الجني
غيرك انت وامي الحاجي
ولا مخلوق مسموحلو يغني.
يحكي عن الشمس وقد تغشتها الشفقة والرأفة بالناس، فتلجم أشعتها عن جباههم السمر، وتسمح للأنسام بالمرور لتلاعب مائسات النخيل، وكأني بالأنسام تتصيد بعض النخلات لتستجديها شبالا من جريد، تنحني لها وتنثني النخلة لتهبها الشبال، وينطلق أهلنا من بطن البيوت منتشرون في الأرض، منهم المندلي يسوق، ومنهم الشايل السوق، فهم أناس لم يعهد عنهم خنوع ولاكسل، كيف لا وشعارهم (إن نجح للعسكريي وان سقط للطوريي)، فليس بينهم متقاعس وان لفحهم هجير الشمس أو فاجأهم الساموري يوما بسيف الدميرة،
ومافتيء شقوري يسوقنا:
بالتمرات البيت متأمن
ودفيقاتنا بدن يترمن
الامات ضحويي اتلمن
والمعزات رقدن ينجمن
ضل القيلة وهيط ويطمن
وحتى ابوي راقد مطمن
راجي بلال الخلوة يأذن
وحس الرادي يروح ويجيهو
والسماعة تجيبلها زني
وانت توج يا طير وتغنى.
لن يستطيع أحد تذوق جمال هذا الوصف إلا الذي عايش هذه العوالم، طير الجني وهو (يوج)…
يااااه
ما أجمل هذا التعبير ياخالد، اذ كم لوجوجة الطير في الوجدان من صدى وموسقة…
أما منظر غنم اللبن يتوسطن السخلات والعتدان وقد (رقدن ينجمن)، فإن الحنية الكامنة في أعينهن -عندما يكن شبعات من اللوبي وبعض قصب- تجعلك تتسمر في مكانك، يهبنك نظرات مفعمات بالشكر والامتنان، ولكن الله لاوراك ولاسمعك ثغائهن الصياح عندما يتأخر طعامهن من بلد بي تحت.
وفي طرف الحوش منظر شوالات التمر مرفوعة على الأعواد وبعض الفلق، انها الخشية عليها من السوس وهوام الأرض، وتلك خبرة اكتسبها الآباء من أجدادنا الكوشيون القدماء من لدن تهرقا وبعانخي والكنداكة أماني ريناس.
ويترى وصف شقوري:
في دكان ودسعدي مقيلك
تسرح فيهو تقول الليلك
وشافعا يحبي يكون ناويلك
ومرات يسهى يخلى سبيلك
وصح ياطير ماشفنا متيلك
والحنيي هي اصلها هيلك
وكل ما اسمع حسك مارق
القا دموع اشواقي سقني
وعاد شن لي غير ابكي واغني.
انها عوالم طير الجني الذي جعل البساط احمدي في ديارنا، واعتبر كل دكاكين قرانا ملكه، كيف لا وهو ال(ملكي) دون العشرات من صنفه، ما أجمل وصفك لمنظر الشافع وهو يحبو، واليد منه تكاد تسبقه إلى طيرة الجني، ثم يعدل عن ذلك عندما يتقافذ عنه!
تطرا البت الشاري غسيلا
وبالاشواق غزلت منديلا
تحلم وتحلم وراجي عديلا
وفى عينيها مسارح ونيلا
حايمي تقش فى الحوش وتغني
غنوة تعبر عنك وعني
وعن الشوق ياطير الجني.
التحية لبناتنا واخواتنا وهن يتصدين لمسؤلية غسل ثياب الأشقاء من الذكور دوما، تجدها تقعي إلى طشت الغسيل، فلاتكاد تراها بسبب اكوام الملابس من حولها وكأنها الجبال، وعندما تنشر الجلاليب والعراريق والبناطلين على امتداد الحبل؛ تيقن بأن الجنة بالفعل تحت أقدامها (فتاة ثم أما).
ونصل إلى الخواتيم مع شقوري حيث يقول:
كيفن حال الدار وخبورها
والحيشان فاضي ومهجورة
ومافي بلاك ياطير بيزورها
تطرا زمان والناس مسرورة
وعامري الكرقة بى طنبورها
ومن براد السمحة نتني.
يحكي شقوري عن المآلات الحالية للعديد من قرانا، حيث هاجر الناس وتركوا العديد من الدور والحيشان فارغة يبكي عليها امرء الفيس واقفا، هذه الدور ظلت ترفد السودان بالعلماء والمبدعين في شتى المجالات على مر العقود منذ الاستقلال. طير الجني مافتيء يزور تلك الديار ويغني، إنه النبل الذي يميز هذا الطائر (الملكي) الجميل.
طير الجني
خالد شقوري
غنى معاي ياطير الجني
منو الغيرك علمني اغني
لما تشيل اشواقي تطير
وتمشي تقيّل جنب البير
وترجع تنقد باقي فطير
وتشرب من نقاع الزير
ساعة الدنيا سموم وهجير
تزقزق فوقنا تفج الصني
سماحتك وكت الدنيا تروق
وكل الناس مندلي تسوق
او ماشين شايلين السوق
وانت براك ساويلك سوق
جنب الحاجي المابي مروق
وفى الشوال عاطني الحنقوق
وداك اليوم ياطير الجني
غيرك انت وامي الحاجي
ولا مخلوق مسموحلو يغني
بالتمرات البيت متأمن
ودفيقاتنا بدن يترمن
الامات ضحويي اتلمن
والمعزات رقدن ينجمن
ضل القيلة وهيط ويطمن
وحتى ابوي راقد مطمن
راجي بلال الخلوة يأذن
وحس الرادي يروح ويجيهو
والسماعة تجيبلها زني
وانت توج يا طير وتغنى
في دكان ودسعدي مقيلك
تسرح فيهو تقول الليلك
وشافعا يحبي يكون ناويلك
ومرات يسهى يخلى سبيلك
وصح ياطير ماشفنا متيلك
والحنيي هي اصلها هيلك
وكل ما اسمع حسك مارق
القا دموع اشواقي سقني
وعاد شن لي غير ابكي واغني
تطرا البت الشاري غسيلها
وبالاشواق غزلت منديلها
تحلم وتحلم وراجي عديلا
وفى عينيها مسارح ونيلا
حايمي تقش فى الحوش وتغني
غنوة تعبر عنك وعني
وعن الشوق ياطير الجني
كيفن حال الدار وخبورا
والحيشان فاضي ومهجورة
ومافي بلاك ياطير بيزورا
تطرا زمان والناس مسرورة
وعامري الكرقة بى طنبورا
ومن براد السمحة نتني. [email protected]