سمح الزي.. عادل عسوم: (سوات العاصفة بي ساق الشتيل الني).
اعتدت تسمية أمثال هذه الخوالد من اغنياتنا بالماتعات، وهذه لعمري ماتعة ذات وضيب، كتب كلماتها شاعر الريف الشمالي لامدرمان راحلنا المقيم في وجدان أهل السودان محمد علي ابوقطاطي الذي لقي ربه قبل سنوات دون العشر رحمه الله.
لعلي أقول بأنني لم أقرأ من الأشعار وصفا لمشهد فيه من احتشاد المشاعر وتفاعل الأخيلة مثل هذه الأبيات:
سوات العاصفة بي
ساق الشتيل الني
وفعل السيل وقت يتحدر
يكسح ما يفضل شي
دا كان حبك وكت حسيتو
شفت الدنيا دارت بي!.
ياااااه
من يصدق بأن أبوقطاطي هذا لم يتعد تعليمه الخلوة!، لكنه وكما قال في مقدمة ديوانه (درب المحبة):
استفدت كثيراً من مقامات الحريري، كما أعجبت بأشعار عنترة وابن الفارض والمتنبي وأحمد شوقي، ومن السودانيين التيجاني يوسف بشير والحردلو وخليل فرح ومحمد المهدي المجذوب.
انتهى.
إن كلمات هذه الماتعة لبسيطة في صياغها اللغوي تستقي من دارجتنا السودانية ألقها، لكن من يسبر غور القصيدة يتبين ايغال الكلمات في لجة الفصحى، يظهر ذلك جليا في سرابات الوصف وعراجين ثمار السياق، وكل كلمة تجدها مختارة بعناية لتعبر عن معنى بعيد مهوى القرط، محتشد بل و(مستف) بالكثيف من المشاعر والاحاسيس والأخيلة، واني وان كتبت من قبل عن راحلنا صديق مدثر الذي عبر عن الحال الذي اصابه من تشتت وارتعاش يدين عند اللقاء في ماتعته الفصيحة ضنين الوعد عندما قال:
كان بالأمس لقاء عابرا
كان وهما كان رمزا عبقريا
كان لولا أنني أبصرته
وتبينت ارتعاشا في يدي
بعض أحلامي التي أنسجها
في خيالي وأناجيها مليا؛
فإن ابوقطاطي نحى ذات النحو وهو يعبر عن حاله عندما تفاجأ بمن تفتح له باب بيت أهلها فهالته احتشادات الحسن وبهائه، فإذا بها (عاصفة) تفعل الافاعيل به وهو الساق لشتيل ني، يافع لم يكن له وصل بعوالم حواء وسحر مظهرها، وما كان حينها مدرك بأن المكان إن لم يؤنث لا يعول عليه.
أما صديق مدثر فقد كان ابن مدينة، وابن المدينة أدعى للهدأة بين يدي اقتحامات المشاعر، أما ابوقطاطي فقد كان ابن ريف، مزارع لاينفصم عن الأرض ومافيها من زروع وأمواه، لذلك اتسق وصفه لفعل السيل وكت يتحدر يكسح مايفضل شي، ولا احسب أن شاعرا عربيا قد جعل من السيل موئلا للوصف في ذات هذا هذا المنحى!
وأبوقطاطي شاعر الخالدة فينا (الفينا مشهودة)، له العديد من الادهاشات في وصف حال المحب في الكثير من اشعاره التي زادت عن ال120 أغنية مسجلة في الإذاعة السودانية، وكلهن عرائس أضفن لكل من لحن وأدى له منهن أغنية، حيث قدم لوردي بجانب هذه المدهشة بديعته المرسال، وكتب للجابري (أنت يا قلبي المتيم كنت خالي)، وغنى له خليل إسماعيل (الأماني العذبة تتراقص حيالي)، وكذلك أغنية مبتدرها (في بنات الجيل بشوف حسنك فريد)، والعشرات العشرات من العرائس لآخرين.
لكم اعجبت بفطنته الشعرية وهو يتخير مفردة (صوف) عوضا عن (شعر رأسي) ليستقيم البيت عندما نظم وقال:
شعرت الرعشة من صوف راسي
لي كرعي!
ولولا انني استمعت له وهو يلقي كلماتها لقلت بأنه نظمها على سياق لهجة الشمالية ونهر النيل:
شعر بالرعشة من صوف راسي لي كرعي.
إذ تنطق كلمة شعر هنا بفتح الشين والعين وسكون الراء مع حذف تاء المتكلم، ويبقى المعنى كما هو، لكن هذا الأداء الصوتي ليس مطروقا إلا عند أهلنا في نهر النيل والشمالية.
ثم يظل ابداع الوصف متدفقا كالشلال وهو يقول:
ونجم الليل منو العداهو غيري
وسافر بي خيالو هناك
صنقر فوق سحاب الري
بنيت في الموج قصور آمال
ومديت للرهاب إيدي
لكأنه استقي المعنى من الآية الكريمة:
{…كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا…}
ثم يتبع ذلك بوصف بديع وهو يقول:
وشديت سرجي فوق الريح
عشان ألقاك
بدور أطوي المسافات طي!.
ولا يسرج الريح ليطوي المسافات طي إلا صاحب أخيلة وضيية!
وما كان الرجل بخيلا حيث وصف للناس جمالها فقال:
صعيب وصفك
لأنك هالة كلك ضي
وفوقك هيبة واجمل قامة
واسمح زي
جمالك في البنات معدوم
شبيهك ما كحل عيني.
فالهالة من الضياء تشتت النظر، فلا يستطيع الرائي التثبت من شيء فيها او في محورها!.
ثم جاء وردي الموسقة والألحان ليلبسها ثوبا قشيبا، بنى الراحل الجميل وردي اللحن على ايقاع العرضة الذي لاتجده كثيرا في اغنياته، ولعله نظر إلى الأخيلة في القصيدة فوجد فيها عنفوانا يحتاج إلى ايقاع يتماهى مع عاصفة تقتحم ساقا لنبات لم يقو عوده بعد، واذا به بسيل كاسح لايبقي ولايذر، فاختار لها هذا الايقاع، وما كان منه إلا أن اضاف إلى الأخيلة بعدا جديدا بصوته البديع وأدائه الفخيم رحمه الله…
ولعمري إن زخم الكمنجات في هذه الماتعة ليحكي عن لوحة لمشهد عجيب محتشد بكل مايلي العاطفة من أبعاد، ولعمري ان طبيعة اللحن بما فيه من ارتقاء مع المدود وخفوت مع ياء خواتيم القافية ليشد المتلقي ويسوقه سوقا إلى أن يختمها وردي ويقول:
أقدلي
وسكتي الخشامة
وانزلي في العواذل كي.