الكتاب

عادل عسوم .. غدا ياحلوتي سأراك تبتسمي..

كانت ومافتئت عروساً بين رصيفاتها من اغنيات الطنبور، فهي الفصيحة كما سبيطة قفاز مميزة دون باقي (السبيط)، لم تخصم من فصاحتها حذف حرف النون من خواتيم قوافيها -برغم انتفاء أيما أداة للجزم- فلعل الجزم مرده يقينٌ تغشى راحلنا المقيم عبدالله محمد خير بحتمية إبتسامة تسع الدنيا بحالها!، لكأني بهذه الأغنية تتدلى من قُندولية دُشمانية تنتصب في دلال على شاطئ هذا النيل الذي يهب الناس الحياة وحُبّ القريض…
أيها النيل سلاما ماجرى في الأرض ماء
انت يانيل كريم انت عون ورجاء
كلما ازددت ارتفاعا زاد في الناس الرخاء.
كم كان سليل الفراديس هذا مبعثا للشعر والأدب وكل ضروب الإبداع فينا، وإذا به ينحني (تأدبا) ليضم إليه في حنو المرضعات جموع أهلنا في منحنى النيل ليخرج منهم العباقرة ممن كانت -ولم تزل- اسهاماتهم تُعلي من شأن هذا الوطن وتزيد…
ولا غرو أن عبدالله محمد خير رحمه الله وطيب ثراه كان من هؤلاء، إنه شاعر هذه (الخلاسية) التي شكلت تمازجا عجيبا بين فصاحة الكلمات وكلاسيكية عوالم الطنبور الذي مافتئت أغانيه تُنظم بدارجة مشبعة بإمالة أهلنا البهية، لكن
هذه الأغنية – الماتعة- التي لم يعتد مبدعنا صدّيق احمد أداءها -في ثنايا أيما حفلة- إلاّ إذا حكم المزاج، وازدانت الدارة بمن توحي له بها من حساننا…
كم ارتهنت -في دواخلي- بعوالم موجبة تحلق بي في فضاءات ممتدّة إلى آفاق بعييييدة…
آفاق مزدانة بماضٍ جميل لسني عُمْرٍ وتَدُه مغروس هناااااااك في قرى منحنانا الجميل حيث يصنع الناس عجينة للحُبَّ لا تكاد تجد لها expiry date، تماما كما يصنعون قراصة التمر لتكون زادا لتسفار بالقطار او باللواري (كان) يستغرق أسبوعا من الزمان…
هذا الماضي الجميل يااحباب له وصل بمستقبل ابيضٌ كالثلج، السماء فوقه مشبعة زرقة، والأرض تحته خضراء فاقع لونها تسر الناظرين، يتمدد وينشر على مد البصر على امتداد بَيُّوضة، يتراءى لي كلما وقفتُ فوق جبل البركل، فإذا بي تقتحمني (غدا ياحلوتي)!…
واذا بالذاكرة تعيد شريط الذكري:
وقف صديق أحمد يومها يتخير من حسان رفيق ابداعه عبدالله محمدخير العديدة، وكان ابتداره برائعة السر عثمان الطيب (ياناسينا)، ف(كاكا) وهو يمدّ صوته البديع بكلمة بطرااااااك ماشاء له الله أن يكاكي، وإذا بنا من حوله كالكتاكيت نلقُطُ (الحَبَّ) وقد أحلنا الفتحة في حائِهِ ضَمّة!…
ومنها ينتقل -متهاديا- الى (ودالدابي مالك ساكت، ماشفت الجلا السواها) ليترى من بعدها وصلا برد ودالدابي (صحيح ياعبدو اخوي قولك حقيقة)، ثم ينتقل إلى أغنية (نار عويش)، ولكن ما ان تنتصف إلا وتنسرب إلى الدارة (بلومة) من بين صفوف النساء، تعلم يقينا عند أول نظرة بأنها من (بنات البندر)، ممشوقة كما ينبغي، وذات وضيب، لكنها تحسن الرقيص بأكثر من رصيفاتها من بنات البندر، فإذا بصديق احمد يتمايل طربا، وينداح دونما تمهيد قائلا:
غــداً يـاحُـلـوتـى سأراك تبتسمي
ولـسْـتُ أحِــبُّ شـيـئـاً غـيـرَ أنْ ألـقــاكِ تـبـتـسـمـى
سـأفـْعَــلُ كُـــلَّ مـايُـرضِـيـكِ رغـْــمَ تـَغـَــوُّلِ الـعَــدَم
بـرغــم الـضِّـيـقِ والآهَــاتِ والألـَم
سَـيـَدْفـعُــنـِى الـهَـوَى لـتـسَـلـُّـق الـقـِمَـم
فيردد الكورص
ياحلوتي ياحلوتي ياحلوتي
ويترى هو فيقول:
لـِكَـىْ ألـقـاكِ تـبـتـسـمـى سَـأكْـسِـرُ حَـاجــِز الـوَهَــم
وهنا ينداح أكثر مرددا (حاااااجز الوهم) لمرات.
ومرات..
ومرات…
حتى قلنا ليته سكت، وذلك بسبب ما انتاب الفراشة من رهق التماهي مع الكورص الذين لم يتركوا لها مهربا للخروج من الدارة، وهي (غتاتة) معلومة عن الكورص يفعلونها دوما، إذ يدورون حول كل بلومة رقاصة قفلا للمخارج كي لاتجد فرجة تعود منها إلى صف النسوة، فلا تملك إلا مواصلة الرقيص…
 ولكن إذا بقلب صديق احمد يحنو على البلومة، فيدع ترديد حائط الوهم ليكمل قائلا:
وأبْـنِـى الـعِـــزَّ والأمْـجـَـادَ والـكَــرَم
ثم ينتقل مموسقا مخارج الحروف ليردد
لـتـبـتـسـمـيييييييي
يمد بها ياءها مدا عجيبا…
وتبتسميييييييي
ثم يواصل والعشم تتبينه في محياه باااديا بأن لاتغادر الممشوقة الدارة، فيردد:
أضِـيـعُ تـَمَـزُّقـــاً لأراكِ تـبـتـسـمـى
وحِـيـنَ أراكِ تـبـتـسـمـى
أذوبُ كَــدَغـْـدَغــاتِ الـشـَّـوْق فـى الـنـَّــغـَـم
يـا أمَـلـِى الـذى أبْـنِــيــهِ يـا عَـلـَمِــى
ويـا شـَرَفِـى الـذى أحْـمِــيــهِ يـا قــَسَـمِـى
فـمَـا أنـا مِـن ذوى الـسُّـلـْـطـَـانِ والـخـَــدَم
ولـيـْـسَ لــدَىَّ شـيـئـاً غـيــرَ مـا أمْـلِـيــهِ بـالـقـَـلـَـم
ومـايـنـْسَـابُ عـبـرَ فـَمِـى
وحُــبـُّــكِ هَـهُـنـــا يـجـْــرى مـكـَـانَ دَمِـى
إذاً فـهـَــواكِ يَـدْفـَعُــنـى لـسَـــوفَ أحَـطـِّـم الـصَّـنــم
وأخـْـرُجُ نـازحَــاً لـلـنـُّـور مِـن ظـُـلـُــم
لـِكَـىْ ألـقــاكِ تـبـتـسـمـى
ولـلمَـاضِـى الـذى قــَـدْ فــاتَ تـنـْـتـقِــمـى
وأصْـرَخُ يـاجـِـراحَــاتـى لـتـلـْـتــئـِمـى
وداعَـــاً عَـهْـــد هَـمِّـى حَـسْـــرَتـى سَـــأمـى
وأهْـتــفُ يـابـطـَـاقــة حُــبـِّى يـارَقــَمـى
وهنا تجد البلومة فرجة في صف الكورص حيث نال منهم التعب مناله فتسرع الخطو لتلتحق بصفوف النسوة، فلا يجد صديق مناصا من أن يواصل والأسى تتبينه يقينا في صوته من خلال تهدجه وهو يقول:
تـعـَـاااااالـى
تـعـَــالى كَــإنــْبــِثــاق الـضَّـــوءِ وإبـتـسِـمـى
وحِـيـنـئــذٍ سـتـبـتـسـمـى
وفـى أعـمـَـاقِ أعـمـَـاقـى سَـتـِرْتـسِـمي
ولكن هيهات فقد ذهبت البلومة مع الريح، وإذا بصديق ينهي الفاصل و…
ونشيل نحنا نفسنا ونختو.
وإذا الفجر بَهّر، وفجّاجو فجّا، فننطلق إلى دورنا عائدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى