الكتاب
تحالف الخائفين.. الأستاذ/ عادل الباز.. المدير العام للمركز الأفريقي للاستشارات
1
لا يمر على السودانيين أسبوع حتى يتعالى همس في المدينة بقصص الخلافات بين رئيس مجلس السيادة الجنرال البرهان ونائبه الفريق حميدتي، ودائماً هناك روايات متعددة تدعمها شواهد وأقاويل؛ أطلت تلك الأقاويل حول الخلافات منذ بداية الثورة وحتى الآن ولم تجد من يرد عليها، وغالباً ما يلوذ القائدان والمقربون منهما بالصمت، فتتناسل الإشاعات وتنسج الحكايات، وقد رأيت أن أبحث فيما وراء ذلك الخلاف للتعرف على حقيقته ومسبباته، ويجدر بي في بداية هذا المقال أن أنوه لحقائق رئيسة تخص هذه الخلافات المزعومة أو الحقيقة.
إّن الخلاف بين الرئيس، أي رئيس ونائبه طيلة العهود التي مرت على تاريخ السودان كان موجوداً سواء على المستوى العسكري أو السياسي، ولكن كان دائماً ما يحسمه الرئيس بإقالة النائب أو إبعاده كما كان العهد بالنواب في عهدي الرئيسين نميري والبشير، اليوم نشهد تجربة مختلفةَ اختلافاً كلياً، فالنائب ليس نائباً عادياً كونه لم يأتِ إلى منصبه معيّناً من ِقبل الرئيس فهو ليس موظفاً تم استدعاؤه لشغل هذا المنصب. النائب حميدتى جاء إلى الحكم بعد مساهمته في التغيير (الذي وقع في 11 أبريل 2019) وخلفه الآلاف من الجنود، وبذا أصبح شريكاً في التغيير برضى جميع أطراف المنظومة الأمنية وقوى الحرية والتغيير الموحدة آنذاك.
الحقيقة الثانية: لقوات الدعم السريع – تاريخياً- إسهام غير منكور في دحر التمرد في دارفور، حيث لعبت دوراً أساسياً في استتباب الأمن هناك، غض النظر عن كثير من الممارسات التي أخذت عليها وقتئذ، فهذه القوة أسستها ودربتها وسلّحتها الدولة السودانية من مواردها حتى صار لها حضور ظاهر عسكرياً وسياسياً، بغض النظر أيضا ًعن الرأي في صحة تأسيس تلك القوات من عدمه.
تلك القوات تم الصرف عليها من خزينة الدولة السودانية، وهذه القوات رسمياً وقانوناً تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة رغم العلاقة الملتبسة في الوقت الحاضر؛ وتمتلك تلك القوات موارد خاصة ضخمة وعشرات الشركات، داخلية وخارجية ومؤسسات تعمل في شتى ضروب التجارة والاستيراد والتصدير والتنقيب عن المعادن، ولا يُعرف على وجه التحديد كم تبلغ الثروة التي تقع تحت تصرفها؛ كما تتمتع قوات الدعم السريع حالياً بعلاقات خارجية مستقلة، بدءاً من إثيوبيا وحتى تشاد، مروراً بأفريقيا الوسطى والنيجر وصولاً إلى جنوب السودان، إضافة لعلاقات إقليمية (الإمارات، السعودية) بجانب ارتباطات دولية (الاتحاد الأوروبي بعد موضوع الهجرة، وروسيا بعد موضوع تصدير وإنتاج الذهب من سنقو). وبرغم تعقيدات تلك العلاقات والإشكالات التي تمر بها إلا أنها موجودة. إضافة إلى ما ذكر، تنتشر قوات الدعم السريع الآن في أكثر من عشر ولايات وبحوزتها مختلف أنواع الأسلحة وينتظم في صفوفها أكثر من مائة ألف جندي مدرب ومؤهل. هنا أود أن أنوه لحقيقة مهمة وهي أن قاعدة تلك القوات لا تنتمي لإثنية واحدة، بل تتوافر على تنوع كبير، وتضم طيفاً واسعاً من الإثنيات والقبائل ومن كافة أنحاء البلاد، والصحيح أن قيادتها العليا يسيطر عليها آل دقلو بخلفياتهم المعلومة.
ما ذكر أعلاه يمثل جانباً من حقيقة تلك القوات على الأرض، والتي يعلمها الجميع، ولذا ليس من السياسة والكياسة الاستخفاف بها وشيطنتها (جنجويد)، ومن سوء التقدير التسرع في دمجها أو حلها بقرار فوقي قهري سواء من القوى السياسية المدنية أو من المؤسسة العسكرية نفسها، حيث تسعى جهات متعددة للوقيعة بين الجيش والدعم السريع بتضخيم الخلافات الفعلية والزائفة لدفع الطرفين لحافة الهاوية الشيء الذي لا يحقق مصلحة للطرفين أو للبلد.
2
تعاني قوات الدعم السريع من إشكالات عدة من الناحية السياسية والعسكرية وفي علاقاتها الدولية، فمن الناحية السياسة لا تجد قوات الدعم السريع القبول والاحترام الكافي من الشارع الثوري ولا من القوى السياسية، مع أنها تبذل مجهودات شتى لتجسير العلاقة بينها وبين التنظيمات السياسية وقوى المجتمع المدني والناشطين والإعلاميين، ولكن ذلك لم يهبها القبول الذي تسعي إليه حتى اللحظة، وتبذل في سبيله أموالاً ضخمة ووقتاً وجهداً. محاولتها التي تبدو ناجحة حتى الآن هي استقطابها للإدارات الأهلية في الأقاليم، وخاصة أقاليم دارفور (قبل مبادرة الجد) والحركات المسلحة فيما بعد اتفاقية جوبا.
تبحث قوات الدعم السريع عن موضع قدم لها داخل القطاع الحديث، لكن مشكلتها مع هذا القطاع نفسه متعلقة باتهامها بالاشتراك في فض الاعتصام، ولذا فإن الاقتراب منها أصبح خطراَ ومداناً من الشارع الثوري، كما أن القوى الاسلامية فقدت الثقة بتلك القوات، وإن كانت لم تناصبها العداء حتى اللحظة برغم المواقف السلبية لقيادتها من التيار الإسلامي عموماً.
الإشكالية الكبرى التي تواجهها قوات الدعم السريع داخلياً تتعلق بعلاقاتها المتوترة دائماً مع المؤسسة العسكرية، وأسباب هذا التوتر أطلت منذ تأسيس هذه القوات في أحضان جهاز الأمن، وهو ما دفع قطاعات واسعة في الجيش منذ وقت باكر للنظر إليها بعين الريبة، وبأنّها قوات ضرار ولكنها فرضت نفسها بالنجاحات التي حققتها في معارك دارفور، مما جعل القيادة العليا للدولة يومها تدعمها وتتمسك بها وتدربها وتعتنى بتأهليها وتضع لها قانوناً خاصاً، ومع ذلك لم يقبلها الجيش في أي وقت داخل منظومته؛ ثلاثة من قيادات الجيش وفروا لها العناية اللازمة وهم الرئيس السابق البشير والفريق عوض بن عوف والفريق البرهان، كل القيادات الأخرى كانت علاقاتها بها متوترة وصلت في وقت إلى مرحلة تعبئة السلاح تجاهها (حادثة سلاح المدرعات).
أما الاشكالات ذات الطبيعة الدولية والإقليمية التي تواجهها قوات الدعم السريع فتتمثل في أن علاقاتها مع تلك القوى الإقليمية والدولية أسستها منفردة برضى الدولة أو تحت بصرها؛ حيث اتفق الاتحاد الأوروبي مع الحكومة السودانية -ابان حكم البشير- على التعامل مع قوات الدعم السريع واستخدامها في السيطرة على مسارات الهجرة العابرة للحدود والمتجهة إلى أوروبا، وخاصة تلك القادمة من شرق أفريقيا وجنوبها، والتي تصل إلى شواطئ المتوسط عبر صحاري الولاية الشمالية. وقد لعبت قوات الدعم السريع دوراً كبيراً في تخفيض نسبة تدفق المهاجرين إلى أوروبا، باعتراف الاتحاد الأوروبي، إلا أن تلك العلاقة سرعان ما تراجعت بعد إتهام قوات الدعم السريع بالمشاركة في فض الاعتصام، مما قاد الاتحاد الأوروبي للتعامل معها بحذر وبشكل محدود، وأخيراً أوقف الاتحاد الأوروبي تمويل العملية التي تقوم بها، والخاصة ببرنامج مكافحة الهجرة غير الشرعية التي اطلقها الاتحاد في العام 2013 باسم ( عملية الخرطوم) وكان الاتحاد قد مول انشطتها بحوالي 220 مليون دولار بحسب تقرير مراقبة الهجرة الذى نشر في مايو الماضي.
ابتعدت أمريكا منذ البداية عن قوات الدعم السريع، ولم تتعامل معها وتوترت علاقاتها بها أكثر بعد كشف تنامى علاقتها مع روسيا، وخاصة بعد صدور سيل من التقارير الأمريكية من بعض المراكز البحثية الامريكية المهمة تتعقب فيها تجارة الذهب التي تنشط فيها قوات الدعم السريع في محاولة لوضعها تحت السيطرة وإخافتها (راجع تقرير قلوبال ويتنس: ذهب بمليارات الدولارات خارج افريقيا 2020، وتقرير رويتر : تحت البريق، وصدر في أكتوبر الماضي تقرير عن مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة C4ADS بواشنطن بعنوان: حاميها حراميها: كيف تؤدي السيطرة العسكرية على الاقتصاد الى عرقلة الديمقراطية فى السودان).
وبالنسبة لعلاقاتها مع دول الخليج، فقد فترت بعد أن بدأت المملكة العربية السعودية مراجعة سياساتها تجاه حرب اليمن الشيء الذي أدى لتقليص قوات الدعم السريع (كانت حوالي 30 ألف جندي) في السعودية؛ وعلاقاتها مع الإمارات توترت بعد الكشف عن تصدير قوات الدعم السريع للذهب إلى روسيا انطلاقاً من أفريقيا الوسطى، التي تملك فيها شركة فاغنر أهم قاعدة عسكرية لها في أفريقيا، خصوصاً: النيجر، مالي، والسنغال وموريتانيا للذهب القادم من أفريقيا. لم ترض أبو ظبي بسوق بديل لدبي، في وقت تبني فيه أبو ظبي احتياطات هائلة من الذهب في بنوكها، كما تعتبر دبي السوق المركزي.
أما مع مصر فلم تنشأ لها علاقة معها أصلاً، فقد ظلت قوات الدعم السريع موضع شك عند المصريين، بل جرى تصنيفها كمليشيا، وظل التعامل معها بتلك الصفة، وتم تحذير السيد النائب في أول زيارة له للقاهرة أن مصر لن تقبل بمليشيا بديلاً عن الجيش، ونصحوه بالإسراع بدمجها في القوات المسلحة. وحسب إفادة دبلوماسي مصري لي -طلب عدم ذكر اسمه – فإن الرسالة وصلت النائب بوضوح باكراً ويجري التعامل معه على هذا الأساس، وفي سؤال حول تقاطع هذا الموقف مع بعض دول الخليج قال لي هذا الدبلوماسي نفسه: “بعض الدول الخليجية السودان بالنسبة لهم لعبة سياسية أما بالنسبة لنا فهو مصير وقضية أمن قومي”. وترجع قوات الدعم السريع هذا الموقف لتأثيرات الفريق صلاح قوش وقربه من دوائر القرار الأمني.
هناك اشكال مقلق، آخر، متعلق بمستقبل قوات الدعم السريع ومصيرها في ظل نظام ديمقراطي. بالطبع لن تستطيع ان تلعب الادوار السياسية التي تلعبها الآن، واقتصاديا ستكون مواردها والشركات التي تتبع لها على المحك في حال صدر قرار من برلمان حكومة ديمقراطية بأيلولة جميع شركات المنظومة الأمنية للدولة، فمن المرجح، في ظل استمرار صدور تقارير المنظمات الدولية عن هذه القوات، أن قراراً كهذا –في حال صدوره- سيجد سنداً دولياً.
3
بناءً على ما سبق، فإن كل تلك الاشكالات والتقاطعات بين الدولة بمؤسساتها السياسية والعسكرية مع قوات الدعم السريع وفرت ما يمكن وصفه بالمادة الخام لاستمرار حالة التوتر، إذا لم نقل الصراع بين الرئيس البرهان ونائبه حميدتي، بيد أن أسباباً أخرى لا تقل أهميّة عن تلك التقاطعات قد جرت وتجرى الآن تصعد من وتيرة الصراع بينهما بشكل أكبر.
أول أسباب ذلك التوتر تعود إلى أن الرجل الثاني في الدولة بلا تعريف في القانون الأساسي، فبحسب الوثيقة الدستورية المنشورة بالجريدة الرسمية (3/10/2019) فإن المادة الرابعة من الوثيقة الدستورية التي تختص بتشكيل مجلس السيادة لم تنص على مسمى النائب؛ ولا ذكر للمنصب في صلب الوثيقة الدستورية، ولا يُعرف الأساس القانوني الذي تمت بموجبه تسمية منصب غير دستوري؛ وبناء على هذا الخلل الدستوري وفي ظل عدم وجود مهام محددة للنائب نشأ فراغ عريض في التوصيف القيادي للنائب إذ ليس هنالك مهام محددة ومستمرة يختص بها في الدولة.
للحقيقة فإن قوات الدعم السريع في طيلة فترة الانقاذ لم يكن لها أي علاقة بالعمل السياسي، ولم تتدخل مطلقا في السياسية، فقد أنشأت بموجب قانون قوات الدعم السريع الذي أجازه المجلس الوطني في جلسته رقم (43) من دورة الانعقاد الرابعة 18 يناير 2017. إلا أنها بعد سقوط نظام الانقاذ بدأت تلعب دورا سياسياً، فأصبح النائب تحت رحمة التكاليف والمهام المؤقتة والطارئة؛ ولعل أبرز المهام التي تولاها السيد الفريق حميدتي هي رعايته لاتفاق السلام، مما نتج عنه ما يعرف باتفاق جوبا للسلام الموقع في تاريخ 3 أكتوبر 2020، كما أن رئيس الوزراء السابق د. عبد الله حمدوك. كلف الفريق حميدتي، بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة، بإدارة الملف الاقتصادي؛ إضافة إلى تحركات حميدتي ابان فترة حمدوك في التعامل مع الأزمات المختلفة، كما حدث في ملف المصالحات القبلية في دارفور ومحاولاته للتوسط في أزمة الشرق.
إن عدم تخصيص وظيفة نائب رئيس مجلس السيادة بمهام محددة دستورياً وسياسياً أسس للخلاف المتطاول بين النائب والرئيس البرهان. والغريب أن القوى السياسية التي كانت حاكمة، وفي مناوراتها بين مركزي القرار: الرئيس ونائبه، قبلت تسميه حميدتي نائباً، وتغافلت عن الوثيقة الدستورية في التعامل معه، فغضت الطرف عن نصوص دستورية صاغتها هي نفسها.
ذلك الوضع الملتبس جعل النائب الأول في الفترة الأخيرة، خاصة بعد 25 أكتوبر 2021، بعيداً عن دوائر القرار السياسي والعسكري، وهو منبع شكواه من التهميش الدائم وشكوكه المستمرة، فكثير من القرارات المهمة سمع بها النائب بعد صدورها من الرئيس دون أن تُجرى معه حولها مشورة وظل بعيداً عن مركز اتخاذ القرار، مثلاً قرار لقاء نتنياهو سمع به النائب في آخر لحظة والرئيس يتأهب للمغادرة إلى أوغندا؛ والقرارات الاقتصادية الآن يجري اتخاذها بين السيد وزير المالية والرئيس برهان ولا شأن للنائب بها، برغم أنه رسمياً مسؤول عن اللجنة الاقتصادية؛ أما القرارات العسكرية فتلك تُتخذ داخل أجهزة ومؤسسات الجيش وغير مسموح له المشاركة فيها لأنه لا يدخل ضمن منظومة وهياكل الجيش.
في الواقع فإن قطاعات من الجيش تنظر لقوات الدعم السريع كقوة موازية للجيش تحت إمرتها الآلاف من الجنود على الأرض، ولذلك لم تقبل بها، ويتضح ذلك من خلال ما يجري الآن في محاكمات انقلاب بكراوي. وربما يفسر هذا الموقف للجيش من قوات الدعم السريع قرارات قيادة الجيش الخاصة بالقيادات التي تم إبعادها مؤخراً، فقد وصف قائد القوات البرية الفريق ركن عصام محمد حسن كرار، والفريق ركن منور عثمان نقد بأنهما من أكثر القيادات التي كانت تتحفظ في التعامل مع قوات الدعم السريع، ويبدو أن ذلك هو سبب إحالتهما للمعاش والذي برر بإكمال فترتهما القانونية بالجيش، برغم من أن هناك من أكمل فترته ولم يُحل للمعاش (مثل رئيس الأركان الحالي الفريق أول محمد عثمان الحسين دفعة الرئيس برهان).
على صعيد آخر، يشكو السيد النائب من أن الجيش أصبح شيئاً فشيئاً يسيطر على تحركات قواته وتسليحها، فقوات الدعم السريع لا تستطيع الآن التحرك بحريّة، ويلزم تحركها قرار من رئيس هيئة الأركان، كما تمت مؤخراً – في ميناء بورتسودان- السيطرة على الأسلحة التي تخص الدعم السريع القادمة من روسيا وبعضها من الإمارات العربية المتحدة، وتم رصدها وحصر مخازنها، ولم يسمح لقوات الدعم السريع بالتحكم فيها. ويرى بعض المراقبين العسكريين أن الجيش يتحكم في مفاصل الهيكل القيادي للدعم السريع، حيث يتولى ضابط بالجيش، معاشين أو في الخدمة الآن، قيادة أغلب الإدارات المهمة وخاصة ادارة العمليات.
يشكو السيد النائب -كذلك- من أنّه لا يتلقى المعلومات الكافية من الأجهزة الأمنية، ولا من الرئيس برهان، وأن ما يحصل عليه من معلومات منقوصة، وغالباً غير مفيدة، فيضطر لاستخدام جهازه الأمني الذي أسسه لقوات الدعم السريع لتلقي المعلومات عبر قنواته الخاصة (شركة مور سكيور) واستخبارات الدعم السريع وقنوات حلفائه من دول الإقليم العربي؛ كما يشكو من عزله عن لقاء شخصيات مهمة كبيرة تزور البلاد، لكنه لا يعرف ما يتم داخل تلك اللقاءات، كما يتذمر من عدم دعوته لمناسبات مهمة بالدولة؛ بل ويتهم –حميدتي- الدولة بأنّها تسعى لتخريب علاقاته الخارجية، بالإيعاز للدول التي أنشأ معها علاقات بعدم التعامل معه تحت ذرائع شتى.
والحال كذلك، كيف يشارك النائب في إدارة دولة هو معزول عن المعلومات التي تتخذ القرارات بناءً عليها، ويشعر بمحاصرتها له؟ ليس مجرد شعور يفصح عنه لدائرته الخاصة، فكثير من التصريحات التي ينتقد فيها قيادة الدولة وفشلها أعلنها على الملأ، مما يشيئ بأن حالة من الخوف بدأت تنتابه، فهو يتحسب من الاعتداء على استثمارات الدعم السريع وشركاته والبنوك التي تساهم فيها شركات تتبع له، وينظر للتحركات والسياسات التي تتخذ في قطاع الذهب والمعادن على أنها تهدد أكبر مورد مالي لإدارته قواته وتسليحها.
4
على الجانب الأخر تشكو المنظومة الحاكمة حالياً من أن السيد النائب لا يرغب في العمل بطريقة مؤسسية تحت إمرة الدولة، محاولاً صنع دولة داخل الدولة، وهو ما من شأنه أن يشكل خطراً حاضراً ومستقبلاً على وحدة الدولة السودانية، ويظهرها دولة برأسين، وبسياسات متضاربة خارجية وداخلية. ولا يبدو أن النائب يعبأ بخطورة هذا الوضع، ربما لقلة خبرته كرجل دولة، فهو –على سبيل المثال- يتحرك خارجياً وداخلياً من دون أن يقدم تقارير مؤسسية، أو أي إفادات، عن تحركاته التي تتم بشكل مفاجئ، ولا يُعرف ما هدف الزيارات أو ما يترتب عليها؛ وعلاقاته مع الحركات المسلحة يشوبها الغموض، وتسهم في التوتر؛ بل إن تقريراً قد صدر عن الأمم المتحدة أثناء مفاوضات جوبا اتهم فيه حميدتى أنه يسعى لبناء تكتل جهوي باستقطاب الحركات المسلحة عدوة الأمس، ويغريها بالمال والمناصب التي يمنحها له اتفاق جوبا. غير أن د. تجانى عبد القادر –في مقاله بافريكا فوكس 5نوفمبر 2020- يذهب إلى رأي آخر مفاده أن “هذه الاتفاقية لم تخرج في أغلب الظن من جلباب منو اركوي وحميدتى والبرهان، وإنما تم استخراجها وبلورتها من تراث سابق في الاتفاقات، ووفقا لفلسفة خاصة في الحكم. وأن من صاغ هذا الاتفاق ومن وقع عليه يهدف صراحة الى “التحول” من نظام “الحرية والتغيير” القائم على بنود “الوثيقة الدستورية”، إلى نظام جديد للحكم تكفلت بنود اتفاقية السلام بوضع أركانه الأساسية”، ذلك أن اتفاقية سلام جوبا “لا تلغي “الوثيقة الدستورية” بصورة واضحة ولكن لا تعتبرها مرجعية عليا … وهذا يعنى صراحة أن تحولاً قد جرى من” المرحلة الثورية” وما استولدت من مواثيق، إلى المرحلة الجديدة وما تستولد من مواثيق، كما هو تحول من حاضنة المجموعات السياسية المتمركزة في الخرطوم، الى حاضنة الحركات المسلحة المنتشرة في الأقاليم النائية، والى حاضنة القوى الشعبية-الريفية الصامتة. وهو تحول يرقى، إذا قدر له أن يكتمل، الى مستوى الانقلاب الناعم”. وانتهى د. التجاني منذ وقت مبكر من توقع الاتفاقية إلى نتيجة أكدتها الأحداث التي تلت سلام جوبا، حيث وصف الاتفاقية بأنها “تعنى، من ناحية التحالفات السياسية، أن انفصالاً استراتيجياً قد وقع (وقد يستمر طويلاً) بين القوى المسلحة التي كانت تناضل من الهامش، والقوى المدنية التي كانت تنشط في المركز. وسيعني هذا أن كلاً منها سيسعى لعقد تحالفات جديدة”. ويرى د. التجاني أنه من الأنسب عدم المساس بجوهر الاتفاق لكن يمكن تعديله بموافقة أطرافه. والى ذلك ذهب مؤخراً الأستاذ الريح السنهورى أمين سر حزب البعث (السوداني). بدعوته لتعديل الاتفاقية برضى الحركات المسلحة، إلا أنه وفى إطار الصراع بين القائدين، الرئيس برهان ونائبة حميدتى، يظهر أن هنالك تسابقا على كسب ود الحركات المسلحة والتنسيق معها. كما ان هنالك طرفاً ثالثاً دخل السباق لكسب ود الحركات وهو قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي فيما بعد 25 أكتوبر 2021، اذ بدأت ولا زالت تناور بين سعيها للتحالف مع حميدتى والحركات المسلحة. فهي تبحث عن تحالف مع قوة صلبة بعد أن تضعضعت قوتها في الشارع وانقلب عليها الجيش. لكنها مناورات خطرة غير مأمونة العواقب، خاصة أن الحركات التي تموضعت جيداً في الساحة السياسية تدرك أن مساحات مناوراتها متسعة وبإمكانها تعزيز مكاسبها بالتسوق بين المتنافسين في الساحة السياسية مما زاد الاوضاع توترا.
ثمة قلق آخر ينتاب الأجهزة الأمنية، وهو اتصالات حميدتى بالقوى السياسية التي لا يعرف أحد هدفها أو ما يترتب عليها؛ فمثلاً تحركات السيد عبد الرحيم دقلو مع قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي تفتقد للتنسيق اللازم مع القيادة، مما أدى لتضارب التصريحات والمعلومات عنها. هل هو يمثل الجانب العسكري كله في المفاوضات، أم أنه يتحدث باسم قوات الدعم السريع؟ وهكذا فإن تحركات قوات الدعم السريع أصبح يُنظر إليها من قبل الأجهزة الرسمية بعين الريبة بعد أن بدأ تحيزها لطرف ما في الساحة، وكأنها تستثمر في تأجيج الصراع السياسي. يعزز ذلك تصريحات النائب المرتابة حول مبادرة الشيخ الجد ود بدر. وقد
حذر الأستاذ أمجد فريد (مستشار حمدوك ابان ترأسه مجلس الوزراء) في تغريدة له بتوتير بتاريخ 2022/8/27 من خطورة التحالفات التي يجرى طبخها، قائلاً: “شركاء الانقلاب … شركاء في السابق … لا يجدي التحالف مع أحدهما ضد الآخر لهزيمة الانقلاب إلا تمهيداً لانقلاب آخر”، كما حذر الحرية والتغيير من اتفاقيات الغرف المغلقة قائلاً: “بعض أطراف أو أفراد الحرية والتغيير تحتاج لأن تصحو من غيبوبتها أو مطامعها.. فالطريق لن تصنعه اتفاقات الغرف المغلقة، أي اتفاق على حل فليكن محروساً وفى العلن”.
إن تلك التغريدة تثير الكثير من التساؤلات، ولكن ما يهمنا منها هنا أن هواجس الجيش بشأن التحركات السياسية الغامضة للدعم السريع حقيقة لا يمكن إنكارها. وهكذا أصبحت تحركات قيادات الدعم السريع داخلياً وخارجياً موضع شكوك وارتياب كبيرين للرئيس برهان والقادة الذين من حوله.
5
نخلص إلى أن هناك صراعاً خفياً حول المستقبل يتعلق بمحاولة تموضع كلا الرجلين في الساحة السياسية في المستقبل، أو فيما بعد الفترة الانتقالية، ونلحظ ذلك السعي الدؤوب من كل طرف من الطرفين لإنشاء أو تأسيس حاضنة سياسية خاصة به؛ فالبرهان مثلاً يحاول أن يفعل ذلك عبر القبائل وخاصة في نهر النيل والشمالية (تنسيقية القبائل) وعبر علاقات خاصة مع قبائل شرق السودان (المجلس التنسيقي/ ترك) أو الطرق الصوفية، بينما يسعى حميدتي لتكوين حاضنة من الإدارات الأهلية والقبائل المختلفة فى غرب السودان (تشي بذلك تحركات الأخيرة في المصالحات القبلية في دارفور). ذلك التنافس الخفي يغذي حالة التوتر والصراع بين الطرفين. لكن ما هي المحصلة النهائية لتلك الاتهامات والشكوك والصراع بين الطرفين.
لقد صنعت تلك الحالة جداراً سميكاً من المخاوف والترصد المتبادل مما أدى لتفسير أي إجراء أو قرار من أحد الطرفين على أنه مؤامرة ضد الآخر، خاصة وأن الساحة تعج بالمشائين بالنميمة وتغذية تلك المخاوف، خوفاً على مصالحهم وطمعاً في رضى الرجلين، لا يعنيهم مألات تخريبهم للعلاقات بينهما ولا تهمهم خطورة ما تفضي إليه تلك الحالة على البلاد ومستقبلها.
هكذا تحّول التحالف بين الرجلين إلى تحالف خائفين من بعضهما، فأصبح أي منهما ينظر إلى الآخر بعين المؤامرة، ولم تنجح تحركات سعت للتوفيق بنهما، وفشلت قرارات تسوية خلافاتهما التي انتهت إليها مبادرة رجال الاعمال (السوباط) ومبادرة الشيخ الياقوت، كما فشلت جهود السفيرين السعودي والإماراتي في هذا الصدد، وكشفت صحيفة العربي الجديد (في خبر لها بتاريخ 2022/8/29) عن تحركات مصرية سعودية في الملف السوداني جاء فيه: “قال مصدر مطلع إن الفترة الماضية شهدت مبادرة سعودية جاءت بتنسيق مع القاهرة للمصالحة وتهيئة الاجواء بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو حميدتي”.
إزاء تلك الأوضاع التي تخيم عليها الشكوك فإننا أمام ثلاثة احتمالات، أولها أن تجري تسوية بين الرجلين، وذلك بعد أن يتوصلا من خلال تداعيات الواقع إلى أن هذا أفضل خيار، فيتوصلا إلى تسوية معقولة تضع حداً لخلافاتهما، وذلك بتقنين وضع النائب ومنحه صلاحيات ومهام محددة ووضع رؤية لكيفية اتخاذ القرار السياسي في القيادة العليا للدولة، وهو الخيار الأجدى والأكثر واقعية، وخاصة أن ملفات ذات خطر بائن (فض الاعتصام/ الانقلاب) ومصيرا مشتركا ينتظرهما في المستقبل القريب. ينقص ذلك الخيار أن توفر القوى السياسية ضمانات كافية لخروج الرئيس ونائبه من الحياة السياسية بعد الفترة الانتقالية بسلام، وأن تتعهد بإجراءات عدالة انتقالية ذات مصداقية أخلاقية. الخيار الثاني هو أن يسعى كل منهما وبالاستعانة بآخرين للتخلص من الآخر وإزاحته من السلطة عبر انقلاب أو أيّة وسيلة أخرى، وهذا الخيار يمكن أن تزينه للقائدين قوى داخلية وخارجية ولكنه خيار عدمي وبلا أفق. أما الخيار الثالث فهو أن يمتشق كلاً منهما سلاحه لتدخل البلاد في نفق حرب أهليّة لا تبقي ولا تذر. أما الخيار الرابع –والأقل كلفة- فهو أن يغادر الرجلان الساحة السياسية والعسكرية لتأتى قيادات بديلة من الجيش والدعم السريع لإكمال الفترة الانتقالية بدون صراعات وتوترات، غير أن هذا الخيار يبدو –في ظل التعقيدات الحالية- أنه مستحيل؛ ولكن الخوف كل الخوف أن يتحول هذا الوضع من صراع عابر إلى تسابق نحو الهاوية.
أخيراً، إذا كانت تلك الخيارات أمام القائدين، فإن من المهم –في المقابل- أن تدرك القوى السياسية أبعاد هذه التعقيدات بواقعية سياسية، وأن تستشعر بموضوعية مخاطر تداعيات ذلك “الصراع القيادي” على مجمل الأوضاع بالبلاد، وألا تستخف بالعواقب التي يمكن أن تترتب عليه، لا سيما وأن القوى الإقليمية والدولية تظهر التقارير الصادرة عنها أنها غير مدركة لخطورة ذلك الصراع. والسبب في ذلك اعتماد تلك القوى على تقارير من الناشطين المحليين والدوليين لا تسعفها لمقاربة عميقة للواقع أو لاتخاذ الموقف الصحيح بناءً على رؤية شاملة لتلك التعقيدات.
والآن بعد كل ما قلت أعلاه، ماذا سيحدث؟
ما ظنك بقائدين في قمة هرم السلطة يتربصان ببعضهما، وتأكلهما الشكوك والهواجس، في وطن معبأ بالغبائن والثأرات والصراعات السياسية، وتحفه المطامع الإقليمية والدولية؟