الكتاب

نبض للوطن.. أحمد يوسف التاي: حكايات للتوثيق وفهم الراهن (3)

نبض للوطن

أحمد يوسف التاي

حكايات للتوثيق وفهم الراهن (3)

(1)

 الحق أني كنتُ متحمساً جداً للحرب على فساد نظام “الإنقاذ”، ربما بحكم إمتلاكي حساسية مفرطة تجاه الفساد الذي كنتُ أراه رأي العين بحكم إطلاعي على الكثير من الملفات التي تدفقت إلى مكتبي كسيلٍ عرِم، وذلك بعد إعلان صغير أشرتُ فيه إلى أننا مقبلون على حرب لا هوادة فيها على الفساد، وكل من يمتلك بيَّنة أو وثيقة، أو أي مستند فليعجل به إلى دار الصحيفة، وفي أيام قليلة تجمعت لدي كميات مهولة من الوثائق، اخفيتُ بعضها، وتركتُ أخرى بالمكتب..كنتُ أظنُ أن الحد الفاصل بيننا ومافيا الفساد القانون، وكنت حتى تلك اللحظة أُحسنُ الظن في المنظومة العدلية، وما كان لي أن آخذها بالظِنّة وما تلوكه الألسن، حتى علمتُ يقيناً صحة ما كان شائعاً بين الناس عن فساد كل منظومة الحكم، وذلك عندما داهمتنا قوة نظامية وتحت وطأة التهديد أخذت كل المستندات والملفات القذرة التي بدأنا ننشر منها خلال شهرين قبل مصادرة الصحيفة وتعليق صدورها لأجل غير مسمى في مايو 2014، لم تدع تلك القوة درجاً ولا “دولابا” ولا صندوقاً مغلقاً إلا طلبت فتحه وأخذ مافيه من أوراق إلا التي كنتُ أخفيها في مكانٍ بعيد..

وأريد أن اعترف هنا بضعف تقديراتي وقصر نظري وانسياقي وراء حماسي في الإسهام مع الآخرين في محاربة الفساد، ولم أكُ ادرك أنه فساد دولة تحميه أجهزتها القمعية، فماكان لصحيفة او صحف أن تقف في مواجهته، لكن على الأقل يمكنها ان توثق له وتدفع الثمن الكبير مثلما فعلت (الصيحة)..

(2)

كنتُ أعرف أن هناك فساد مستشرٍ في مفاصل أجهزة الحكم ، ولكن حتى ذلك الوقتُ كنتُ أعتقد أن الأمر لايتعدى فساد أفراد وجماعات وليس فساداً منظماً تحميمه أجهزة الدولة، ورغم أني كنتُ أتمثل عبارة شيخ صادق عبد الله عبد الماجد الشهيرة التي قال فيها: ( عاصرتُ كل الحكومات قبل الاستقلال وبعده لم أجد أفسد من نظام الإنقاذ) وكان يشير إلى فساد المنظومة كلها ،ورغم أني كنتُ أتمثل شهادة د. الترابي في فساد النظام إلا أنه ما كان لي أن آخذ نظام “الإنقاذ ” بالظِنَّة وما يقال عنه إلا ماكنتُ شاهداً عليه وماحدث لي شخصياً بالتجربة بحكم وظيفتي ومسؤوليتي…

بدأت عندي أولى مراحل اليقين بأن ما يجري في بلادنا فساد منظومة كاملة، وهو ما يعرف بفساد الدولة، وهو فساد محمي بالقانون وأجهزة الحكم، ولأن الفساد نفسه هنا جزء من حماية النظام، كما بدا لي يقيناً أن منظومة الحكم كلها أصبحت فاسدة ولاتقبل إلا فاسداً، وهو سيستم يلفظ تلقائيا كل ماهو نظيف وشواهد تجربتي في ذلك كثيرة ومتعددة ومتنوعة، ولعل اقتحام قوة نظامية مكاتبنا وأخذ ملفات فساد تثبت تورط شخصيات مهمة في النظام ومسؤولين بالدولة، لإيقاف استمرار نشر ملفات الفساد ومصادرة الصحيفة وإغلاقها، لهو خير دليل على أن النظام يحمي الفساد، والفساد يحمي النظام..

(3)

ولعلي اورد شواهد أخرى على أن الفساد كان فساد منظومة كاملة ومحمي بأجهزة الدولة،

فقبل مصادرة الصحيفة بأيام تم اقتيادي والدكتور ياسر محجوب قبل أن يغادر إلى لندن ويطلب حق اللجو مضطراً من كثرة الملاحقة والتضييق والإضطهاد ،تم اقتيادنا إلى (نيابة الأراضي) وليس نيابة الصحافة والمطبوعات، تخيلوا هذا التجاوز أولا، وهناك وضعونا بالحبس، وكنت وقتها أعاني من الحمى الشديدة ولم يُسمح لي بالعلاج، وعندما وصلنا مرحلة التحري كان هناك ضابط برتبة مقدم يتحري معنا كلاً على حده…

ومن ضمن حديثه الموجه لي، يقول :انت متهم بنشر أسرار الدولة،ونشر مستندات سرية تخص الدولة، وبهذا خالفت المادة 52.. وهذه عقوبتها كذا وكذا ..الخ..

قلتُ هذه ليست أسرار دولة وليست وثائق سرية، بل هذه مستندات تخص أشخاص فاسدين، ووثائق تثبت تورط مسؤولين في قضايا فساد، وهذا في مصلحة الدولة والشعب وليس العكس، ثم ختمتُ حديثي بسؤال وجهته إلى سعادة المقدم:هل الدولة يا سعادتك هي أولئك الأفراد الفاسدين، فإذا كان هؤلاء هم الدولة فلنقل إذن بحكم هذه الوثائق التي أمامك أن الدولة فاسدة..!! فهل الدولة هي مجموعة اشخاص فاسدين؟!

الحق أن ذلك الضابط بدا مقتنعا بحديثي ومتعاطفاً معي، ولم يتشدد أكثر في أسئلته..

إذن هذا نموذج آخر يعزز زعمي بأن أجهزة الدولة كانت تحمي الفساد، وأن الفساد كان فساداً منظماً، وهو فساد منظومة بأكملها، ولهذا جاء ربطي لما يحدث حالياً في بلادنا سواءً ما حدث في مجزرة فض الاعتصام، او انقلاب 25 اكتوبر، أو حرب اجتياح الخرطوم في 15 أبريل، كلها عندي أحداث مرتبطة بفساد الدولة الذي أتناوله في هذه السلسلة…

نواصل

….اللهم هذا قسمي فيما أملك…

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى