الكتاب

عادل عسوم: صديق أحمد يغني في ستكهولم.

صديق أحمد يغني في ستكهولم.

عادل عسوم

رحم الله الأمام الشافعي رحمه الله وقد قال:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج هم واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

وإني وإن كانت أسفاري داخلة في اطار الفائدة الثانية وهي اكتساب المعيشة لكونها أسفار عمل، الا أنها تخللتها الكثير من الطرائف والذكريات الجميلة.

أستكهولم:

كان ذلك في بداية التسعينات حين سافرت لأول مرة إلى تلك المدينة الحالمة والمتدثرة بغلالتها الاسكندنافية البيضاء، وصلت ليل السبت، ونزلت بفندق يسمى موفمبك

Movenpick

في وسط المدينة.

صحوت صباح الأحد على صوت طرق -خفيت- على باب الغرفة، فنهضت وإذا بورقة مذهبة معلقة على المقبض الخارجي مكتوب عليها:

A Sunny day Sunday.

لم أستوعب المراد في بادئ الأمر، فاتصلت مستفسرا الأستقبال لتعلمتني الموظفة بأدب جم بأن اليوم يوم أحد مشمس، وهو شئ نادر في هذه الفترة من العام في تلك البلاد، هيأت نفسي للخروج لأتفاجأ ببردهم القارس، فلم أجد بدا من العودة والتدثر بمعطف سميك حمدت الله أني أحضرته ضمن ملابسي، وقد كانت درجة الحرارة تقل عن ال4 درجات مائوية برغم الشمس التي يتحدثون عنها!

سرت على طول الطريق الموازي للفندق لدقائق عدة أدير بصري في الأبنية الشاهقة واللامعة من حولي…

ياااااه

كل شئ جميل ومنظم، حتى الهواء كأن نسبة الأوكسجين فيه زادت عن ال21% المعهودة، وفجأة…

إذا بي بصوت ينطلق من نافذة سيارة أوبل صغيرة زرقاء يخرجني من تأملاتي، صوتٌ جعلني محتارا أسائل نفسي أين أنا؟!

ويتأكد لي الصوت أكثر بعد توقف العربة بجانبي عند الأاشارة الضوئية مع ترديد الكورس (حتى القمري ماقوقا…حتى القمري ماقوقا…)!

معقول صوت الفنان (صديق أحمد) في أحد شوارع استكهولم؟!…

أصغيت مصوبا بصري تجاه نافذة الأوبل، لأرى أحد السودانيين خلف مقود السيارة وسألته بتلقائية:

– الأخ أكيد من الشمالية؟!

رد الشاب:

– بالحييييل …

وأردف قائلا:

أنت من وين؟…

واخضرت الاشارة الضوئية ليعود أخونا (محمد) ويوقف سيارته بالجانب المقابل للطريق ويأتيني راجلا للسلام والاحتفاء بمن شاركه الاستماع إلى الطنبور ، وبعد السلام حيث علم الرجل بكوني ضيف زائر (حلف) بأن أذهب معه لتناول الغداء في هذا اليوم الجميل، واراني (كيسا به ويكة ناشفة) ابتاعه لتوه من محل لبيع المنتجات السودانية في استكهولم، لم أجد مناصا -تحت الحاح الرجل- من أجابة الدعوة، فعدت إلى الفندق وتركت وصية لدى موظفة الاستقبال للشركة المضيفة لي (وحينها لم تكن الهواتف النقالة معتادة).

محمد يسكن مدينة صغيرة لاتبعد كثيرا عن استكهولم،

دلفنا إلى مجلس صغير والتلفاز على قناة (أفلام كرتون) فعلمت بأن بالمنزل أطفالا، وبعد ربع ساعة من جلوسي أتانا بلال،

بلال في الرابعة من عمره، يلبس (سروالا بتكة، وعراقي عليه صديري وطاقية)!…

وقف بلال ويده على صدغه في تحية عسكرية وهو يقول:

– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

فرددت عليه السلام،

واحتضنته وقبلته على جبينه،

ومن محياه بدا لي أن زوجة مضيفي محمد من أهل تلك الديار، أكد لي ذلك مقدم ابنته عائشة ذات الثلاث سنوات،

جاءت وهي تربط الخمار على شعرها ووقفت غير بعيد وأنشدت بصوت جميل أنشودة طلع البدر علينا…

ثم جلست تتلو سورة الكافرون والأخلاص!…

وبعد حوالي الساعة دخلت علينا أم بلال (السويدية) التي اسلمت وأسمت نفسها فاطمة الزهراء، تحمل صينية الغداء…

غداء بملاح أم رقيقة وكسرة،

وخلال الغداء تواصل الحديث من مضيفي محمد الذي يتميز بروح الدعابة وقد شرعت أم بلال أم بلال تشكو لي تهاونه بالصلاة التي لاينتظم في أدائها،

ثم قالت لي بأنه يتعاطى المكروه، وطلبت منّي نصحه بترك الصعوط لأنه من مكروهات الاسلام!

قلت لمضيفي محمد بعد أن ذهبت فاطمة الزهراء للإتيان بالشاي:

– ياأبو بلال…

تعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، وقد رزقك الله بها،

لماذا لا يكون التزامك شكر لله على ذلك؟…

ما كان منه الاّ أن رد علي ضاحكا:

– ياخي دي عاوزة تبقا لي صحابية عديل مما أسلمت، والمشكلة لي اسبوع بلال كمان بقا ينصحني، ثم أقسم لي بأنه سيقلع عن كل ذلك قريبا جدا، وأن السبب في عودته للصعوط أن زوجه وابناءه تأخروا لأشهر في السودان حيث كان وحيدا هنا، وحكى لي الآتي:

أم بلال من أشد المعجبين بقريتنا في الشمالية، اعجاب يصل حد الإلحاح عليّ بأن نترك السويد لنستقر في السودان، وفي الشمالية (في البلد بالذات)!

قبل عام سافرنا إلى السودان ونزلنا البلد،

وما أن أشرقت الشمس خرجت أم بلال مع الوالدة ل(حلب اللبن)، ثم أصبحت هي من تفعل ذلك كل يوم،

بل كانت طوال النهار تحمل حقيبتها – وهي أخصائية طب أسرة ومجتمع- وتدور في الحي ومعها أخي الصغير، لتكشف على الناس وتعالجهم بما حملته معها من أدوية من السويد، حتى الحمير والدجاج والغنم تكشف عليها وتعالجها (قال ذلك ضاحكا)، وعندما أزف موعد العودة إلى السويد رفضت مغادرة البلد،

وقالت بأنها لم تشبع بعد من الطبيعة والناس هناك، وتدخّل الوالد راجيا مني السفر وحيدا ثم تلحق هي والأبناء بي بعد شهر، لكنها بقيت لشهرين، ولولا أن موعد دراسة بلال وعائشة قد أزفت وكذلك ايشاك انتهاء تأشيرة الزيارة، لما رضيت بالمجئ،

وصدقني ياأخ عادل لو لم تشارف تأشيرتها على الأنتهاء لما غادرت البلد والسودان…

وأتتنا علينا أم بلال بالشاي ولعلها سمعت جزءا مما دار بيننا، فقالت وهي تصب الشاي:

– يا أخي لقد حباكم الله ببلاد هي جنة الله في الارض…

فضحك صديقي محمد وهو يقول بدارجتنا الشايقية:

(شوف بالله عليك الله الطيرة دي ياعادل، ماني عارف العاجبا شنو في التُشّق والغنم والجداد داك؟).

رددت عليه وقد اغرورقت عيناي بالدموع:

– لا والله ياأخ محمد، بلادنا بالفعل جميلة، لكننا لا نتبين جمالها إلا بعد مبارحتها لنعيش حياة أقل ماتوصف به أنها مصطنعة ومعلبة.

أسأل الله أن يرد غربتنا جميعا وقد نال كل منّا مبتغاه ومقصوده…

التحية لك أخي محمد، ولك أنت أيتها الأخت المخبتة فاطمة الزهراء، ولبلال بن رباح الخلف، لعائشة بنت الصديق رضوان الله عليهم وعليكم.

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى