الكتاب

د. أسامة احمد عيدروس يكتب.. سيناريوهات نهاية الحرب (الحلقة الأولى)

د. أسامة احمد عيدروس يكتب.. سيناريوهات نهاية الحرب (الحلقة الأولى)

سيناريوهات لن تتحقق

دلت معارك اليوم في جنوب الخرطوم دلالة قاطعة على وصول قوات الدعم السريع إلى تشتيت يصعب عليهم فيه وضع خطة جديدة تغير من المسار العملياتي للحرب التي فقدوا فيها القيادة والسيطرة. ويبدو ان القادة لم يصلهم أي أوامر جديدة تحدد أهدافا عسكرية مختلفة، فقرروا المواصلة في ضرب المواقع (الرخوة) من اجل تحقيق نصر إعلامي لا علاقة له بسير المعارك. وتكررت اليوم خسارتهم واستنزافهم في العربات والاسلحة والأفراد عند هجومهم على معسكر الإحتياطي المركزي الذي تصدى لهم بصورة احترافية عالية وكأنه كان في تمام الجاهزية لتدمير المهاجمين.
لقد انكسرت الصورة الذهنية التي أنفق عليها الدعم السريع أموالا طائلة واتضح أن جنوده رغم فرط نشاطهم وجلهم من صغار السن إلا انهم يفتقدون الاحترافية ويتعرضون للخسائر واحدة تلو الاخرى ويكررون الأخطاء الفادحة وكأنهم لا يصدقون أنهم ينهزمون ويتم تدميرهم على الأرض مع فقدانهم لأي غطاء جوي. صورة الجنود المنهزمين زادت عليها صور الخراب والدمار والنهب وترويع الآمنين وحالات الاغتصاب الوحشية التي يقومون بها في أحياء الخرطوم. هذه الوحشية لم تدخل الرهبة منهم في القلوب وإنما زرعوا في نفوس الناس الاشمئزاز حد الغثيان من قوات بربرية همجية وجماعات من اللصوص لا يردعهم رجولة ولا أخلاق من النهب والسرقة والتدمير واذلال البشر مستقوين بسلاحهم في وجه العزل أو في الأماكن التي لا يكون عليها رقيب أو حراسة.
لقد أدخل الدعم السريع نفسه في ورطة كبيرة مع جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي لم يستطع حبس جنوده من ارتكابها في العلن وأمام العالم. ومع تقدم الوقت وقرب نهاية المعركة نجدهم مستسلمين لأقدارهم يبحثون عن من يخلصهم من هذا المأزق الكبير ويكتب لهم الخروج من هذه المصيدة الكبيرة والكماشة التي تطبق عليهم قليلا قليلا.
تحدثنا في المقال السابق عن نقطة اللاعودة في معارك الدعم السريع ونهاية الحرب عبر عدة سيناريوهات. نتعرض في الحلقة الأولى عن السيناريوهات التي يمكن أن توقف الحرب ولكنها لن تفعل ذلك بسبب القصور الذاتي وامعان الناس في الجلوس على مقاعد المتفرجين وهم يشاهدون دمارهم ودمار البلد مع عجز تام عن المبادرة.
السيناريو الأول: المبادرة السعودية الأمريكية
قامت هذه المبادرة بعقد مفاوضات في مدينة جدة السعودية بعد تخبط دولي كبير عجزت فيه بريطانيا وامريكا ودولة اقليمية من تمرير قرار ضد السودان. وكان الامريكان قد تحدثوا على لسان بلينكن بأن الأمر شأن داخلي ثم عادوا ليعملوا مع البريطانيين في مجلس الأمن لاصدار قرار كاد أن يصل للبند السابع ولكنهم فشلوا. وهناك لوم داخلي كبير لادارة بايدن في تعاملها مع السودان يشبه اللوم الذي وجه لسوزان رايس التي قادت ملف جنوب السودان وأدى استعجالها للانفصال إلى صناعة دولتين فاشلتين جديدتين في أفريقيا. وقد كلفها اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان أن تختفي من الحياة السياسية وتنسى طموحها بالترشح في سباق الرئاسة.
هذه المبادرة ليست بدعة ولا جديدة فقد تم تطبيقها من قبل خلال مفاوضات وقف العدائيات بين حكومة السودان والحركة الشعبية شمال بقيادة الحلو من اجل فتح مسار للمعونات الانسانية في أيام حكم الرئيس البشير. وقد تم توقيعها مباشرة بين الجيش وبين الحركة الشعبية وانتهت بوقف اطلاق النار ظل ساريا حتى يومنا هذا. الفارق هنا أن مناطق وجود قوات الدعم السريع ليست معسكرات خارج المدن وانما في أماكن داخل أحياء المواطنين وفي المرافق العامة والمستشفيات مما يتطلب خروجهم منها.
فتحت هذه المفاوضات الباب واسعا وقف الحرب وتوقيع وقف اطلاق النار ولكن يبدو أن عدم وضوح الرؤية للأمريكان في تعاملهم مع هذه الحرب وايمان الدعم السريع حينها بسيطرته الكاملة على الخرطوم من خلال الانتشار الواسع فيها جعلت الجولة الأولى للمفاوضات تتوقف عند اعلان مباديء يشمل بنود البروتكول الموقع عام 77 للقانون الدولي الانساني بشأن الأعيان المدنية ووقف الانتهاكات ضد المدنيين. وأرجأ الاتفاق قضية وقف اطلاق النار الى مفاوضات لاحقة. ربما كان الدعم السريع يتمنى خلال هذه الفترة تحسين موقفه الميداني وتعزيز سيطرته على الخرطوم قبل أن يصل لوقف اطلاق النار.
بعد أن انكشف ظهر الدعم السريع وشعر بأنه تورط في المعركة مع عجز كامل عن البقاء في مواقعه داخل الاحياء لفترات أطول بسبب الانهاك والاستنزاف مع الانتباه الكاملة للجرائم المروعة التي يرتكبها ضد المدنيين العزل، وكذلك بعد فقدانه القدرة على الانسحاب لخارج الخرطوم دون اتفاق وقف اطلاق نار مما يجعله عرضة للسحق الكامل بواسطة الطيران وأصبح لا يستطيع التقدم ولا التقهقر. يبحث الآن الدعم السريع عن وقف لاطلاق النار بأي طريقة ويبدو أن جولات مستشار الفريق حميدتي في جنوب السودان ويوغندا تنحو في هذا الاتجاه. وبهذا فعليا فإن الواقع على الأرض قد تجاوز مفاوضات جدة وستكون نتيجتها مجرد تحصيل حاصل ولن تستطيع انهاء الحرب خصوصا أن الراعي الأمريكي ليس له القدرة الكافية على تغيير مواقفه ايجابيا تجاه السودان الذي ما زال يفضل أن يضعه دوما تحت طائلة العصا الأمريكي كما ظهر في الأمر التنفيذي الأخير بلا معنى لبايدن وكأنه يقول للناخبين أنظروا أنا افعل شيئا من اجل السودان.
السيناريو الثاني لوقف الحرب:
يقوم هذا السيناريو على موقف شجاع يخرج الدعم السريع من المصيدة التي لا يستطيع منها الخروج الآن. هو كالنمر الجريح المحاصر يضرب في كل الاتجاهات. الشجاعة هنا بالاعلان بوضوح عن أن ضباط الدعم السريع وجنوده يجب يأمنوا على حياتهم ويضعوا السلاح فورا لتقف الحرب. لا يكفي هنا العفو العام المعلن وانما هذا الأمر يحتاج لما يسمى (دبلوماسية الباب الخلفي) والتي تتطلب درجة عالية من الشجاعة والحكمة وتجاوز المصالح الشخصية من أجل وقف الحرب. نحتاج لقادة أحزاب (كل الأحزاب) يقومون بالخروج من لعبة الأطفال السمجة (أنا من سرقه؟ ومن سرقه؟ هذا سرقه….أنا من سرقه؟ ومن سرقه؟ هذا سرقه) إلى وضع سقف أعلى اسمه الدولة السودانية أولا..الدم السوداني أولا…وأن يتحولوا لقادة للبلد حقا ويقودوا هذا المجتمع بعيدا عن صراع السلطة من اجل حقن الدماء وحفظ الوطن. دبلوماسية الباب الخلفي قد تصل إلى الوصول الى كل شخص له تأثير على قادة الدعم السريع وضباطه وجنوده والتواصل المباشر وغير المباشر معهم من أجل وضع السلاح وتأمين أنفسهم وانقاذ البلد. هذا السيناريو يتطلب أشخاصا مثل أولئك الذين يتصدرون المجتمع في حالات القتل والعفو والدية الرجال والنساء الذين يسمع الناس لكلامهم ويضعون حسابا من التوقير والاحترام لكلمتهم هم أهل (الجودية) وما احوجنا لها اليوم في رقصة الهياج هذه.
أما وقد علقت في سرك أن هذا أمر بعيد المنال فارجع لعنوان المقال وستجد أنه من السيناريوهات التي لن تتحقق لوقف الحرب الدائرة الآن ورغم ذلك يبقى العشم في بلاد ظل مجتمعها يضرب الأمثال في سد اللحمة والتعاضد والتراحم في أحلك الأوقات والظروف.
(المقالات القادمة حول سيناريوهات نهاية الحرب في الميدان العسكري)
د. أسامة احمد عيدروس
18 مايو 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى